نساء سوريا وجراحات الحرب الجسدية والنفسية

سونيا العلي

مع تحول الثورة في سوريا من السلمية إلى التسليح، بدأت معاناة الشعب السوري قتلاً وإعاقة وتهجيراً، وخاصة في إدلب وريفها التي شهدت على مدى سنوات الحرب معارك شديدة وقصفاً عنيفاً بكافة أنواع الأسلحة المحرمة دولياً من قبل النظام السوري وحلفائه. ولم تكن النساء بمنأى عن تلك المعاناة بل كان لهن النصيب الأكبر من الخسائر والأعباء، حيث وقعت الكثيرات فريسة الإصابات الحربية والإعاقات الجسدية التي انعكست على حياتهن بشكل أقسى وأصعب، فالمرأة تتحمل في مجتمعنا مسؤوليات كبيرة لا يمكنها النهوض بها مع وجود إعاقة في جسدها، حيث تجعلها الإصابات الجسدية عُرضة لليأس والإحباط والخوف من احتمالية تلقيها للمعاملة السيئة.
لم تعد عبير(٢٩عاماً) من معرة النعمان قادرة على الذهاب إلى عملها، والاهتمام ببيتها وأولادها كما كانت تفعل في السابق، الأمر الذي جعلها وحيدة وحزينة طوال الوقت، وتتحدث عن معاناتها من الإعاقة لشبكة الصحفيات السوريات بقولها: “فقدتُ يدي اليمنى إثر تعرض المنزل المجاور لمنزلنا للقصف بغارة جوية، وذلك أثناء غياب زوجي وأولادي عن المنزل.” وتُضيف عبير بحزن: “كانت الإعاقة نقطة تحول صعبة في حياتي، حيث لم أستطع تقبل الأمر في البداية، ولكنني مع مرور الوقت تأقلمت تدريجياً مع وضعي الجديد، كما أن وقوف عائلتي إلى جانبي ساعدني على التحلي بالصبر والشجاعة.”

كذلك فقد تعرضت أم محمد (٣١عاماً) من ريف إدلب للإعاقة، لكنها عانت من التهميش والتجاهل من أقرب الناس إليها، حيث تخلى زوجها عنها وتزوج من أخرى قبل أن تنتهي رحلة علاجها، وعن ذلك تقول: “كنت أعيش مع زوجي حياة سعيدة، نعمل معاً داخل المنزل وخارجه لنؤمن كل ما يحتاجه البيت والأولاد، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي اخترقت فيه شظية صاروخ عمودي الفقري، لأبدأ رحلة علاج طويلة مع المرض والألم، وأخيراً أصبحت أمشي باستخدام العكازين اللذين أصبحا وسيلتي في الحركة والتنقل.” وتبين أم محمد بأن زوجها كان يشفق عليها في البداية، وبعد فترة بدأت تشعر بتجاهله لها، وتغيبه المستمر عن المنزل، لتعلم بأنه قد تزوج من امرأة أخرى، وتخلى عنها وعن ولديها.”

أما علا (٢١عاماً) من ريف إدلب فقد كانت ضحية العنف الأسري الذي زاد انتشاره في إدلب وريفها نتيجة انتشار الأسلحة في كل منزل، وعن معاناتها تقول لشبكة الصحفيات السوريات: “كان الزوج في السابق يستخدم يده لضرب زوجته في المجتمع المحيط بنا، أما اليوم فالسلاح متوافر ومنتشر بأيدي العامة، والفلتان الأمني يجعل أي شخص يشهر سلاحه متى أحب دون حسيب.” توضح علا كلامها بالقول: “حمل زوجي بندقيته في وجه والدي على خلفية خلاف بينهما، وعندما حاولت تهدئته ونزع البندقية من يده أطلق النار علي، وتم إسعافي إلى المشفى لأخرج منها بعد شهر عاجزة وغير قادرة على المشي أو الحراك، وبما أن زوجي أحد القياديين في فصيل عسكري فقد أفلت من العقاب، وكل ما استطعت الحصول عليه هو الطلاق.” وتضيف علا بحزن واصفةً حالها: “لم يعد لحياتي أي معنى، فأنا أشعر بقلق دائم من المجهول، والخوف من المراقبة المستمرة من الآخرين، إضافة إلى شعوري بالإحباط والتشاؤم والرغبة بالوحدة والعزلة عن الآخرين.”
وتتحدث المرشدة النفسية هديل البكري (٣٩عاماً) من مدينة إدلب عن دور المجتمع والأسرة في تذليل الصعوبات التي تواجهها النساء ذوي الإعاقة بقولها: “يجب على الأسرة والمجتمع أن يمنحا المرأة التي تتعرض للإعاقة فرصة لعيش حياتها بفاعلية، وتذليل الصعوبات والحواجز التي تقف حجر عثرة في طريق إرادتها وطموحها، وتعزيز ثقتها بإمكاناتها وقدرتها على المشاركة، وضرورة فك الحصار الاجتماعي الذي يفرضه المجتمع عليها.”

بالإضافة إلى الإعاقات المباشرة الناجمة عن الحرب، فرض استخدام السلاح في سوريا على الكثير من النساء تحمل ويلات النزوح والتهجير والتشرد هرباً من القصف والمعارك المشتعلة، فخسرن المسكن والخصوصية، ولجأن إلى مراكز الإيواء أو المخيمات التي تفتقر بمعظمها إلى الطبابة والرعاية الصحية وخدمات التعليم. فمثلاً تهجرت أم عدنان (٤١عاماً) مع أسرتها من الغوطة الشرقية ليستقر بها الحال في أحد المخيمات الحدودية بريف إدلب الشمالي، وعن معاناتها تتحدث قائلة: “بعد تهجيرنا قسرياً من الغوطة، سكنت مع أسرتي في خيمة صغيرة لا تحمينا من حر الصيف أو برد الشتاء، نواجه فيها صعوبات كبيرة في التأقلم مع مشاكل النزوح، حيث نعاني من انعدام الخدمات الصحية وقلة المياه وتفشي الأمراض وغياب الخصوصية، أما الفقر فيجعلنا نلهث وراء ما يقدم إلينا من مواد إغاثية ومعونات لا تغني من جوع.” وتبين أم عدنان بأن أولادها حرموا من التعليم بسبب بُعد المدارس عن المخيم الذي يقطنون به، لذلك توجهوا نحو أسواق العمل للمساهمة في توفير الحد الأدنى من المتطلبات المعيشية للأسرة. وتضيف أم عدنان: “دفعتني ظروف النزوح وفقدان الأمان إلى تزويج ابنتي التي لم يتجاوز عمرها الخامسة عشرة، رغبة بإبعادها عن حياة النزوح وتخفيف بعض المسؤوليات الملقاة على عاتقنا.”

كما ساهمت الحرب السورية في فقدان الكثير من الأسر لمعيلها الذي مات أو اعتقل، فكانت المرأة هي المسؤولة عن الإنفاق والرافعة الاقتصادية لأسرتها، تعيش الوحدة والحيرة في كيفية تدبر شؤون أسرتها المعيشية أمام الغلاء وقلة فرص العمل. فمثلاً فقدت أم وائل وهي أرملة ثلاثينية من معرة النعمان زوجها في الحرب، وهي تعمل اليوم لتنتشل أطفالها من براثن الفقر والجوع، وتصف تجربتها: “حمل زوجي السلاح وانتسب لفصيل عسكري منذ بداية الثورة، لكنه قضى نحبه أثناء رباطه على إحدى جبهات القتال مع عناصر النظام نتيجة سقوط قذيفة على مقربة منه.” تُشير أم وائل إلى أنها خرجت للبحث عن عمل لتظل وأبناءها على قيد الحياة، وأخيراً عملت كمستخدمة في أحد المراكز التعليمية. تؤكد أم وائل بأنها تواجه صعوبات كبيرة في عملها، كما تواجه نظرات المجتمع الذي يراقب الأرملة ويرصد تحركاتها، ولكنها رغم كل ذلك تشعر بالرضا لأنها تنفق على أولادها الثلاثة من تعبها دون أن تمد يد الحاجة لأحد.
ألحقت سطوة السلاح بالنساء السوريات جراحات جسدية ونفسية، فلا زلن يتجرعن في كل يوم علقم الحرب من عنف وتهجير وفقر وفقدان للمقربين، مواجهات آلامهن وجراحهن بالصبر والأمل دون توجع، مما يضع منظمات المجتمع المدني أمام مسؤولياتها في توفير مراكز للدعم النفسي والاجتماعي للنساء ليكن جزءاً فاعلاً في المجتمع السوري، وإبعادهن عن الافتراضات السلبية القائمة على فكرة العجز وعدم القدرة على الاندماج والعطاء، مع ضرورة توفير فرص عمل تساعدهن على تأمين لقمة العيش لأطفالهن بكرامة.