التمريض.. مهنة الإنسانية والمتاعب

سيسيليا الطويل

“تم إنتاج هذه المادة خلال مرحلة المتابعة والإرشاد في برنامج “النساء والسلام والأمن”، من مؤسسة شبكة الصحفيات السوريات؛ وبإشراف الصحفية ليندا بلال. حُرر ونُشر بالتعاون بين جريدة شامنا، وشبكة الصحفيات السوريات.”

مع ساعات الفجر الأولى، هرعتُ إلى مشفى النسائية في مدينة اعزاز شمال حلب لإسعاف طفلي، على وقع ارتفاع حرارته الداخلية فجأة، وفيما أفتش باحثةً عن طبيب/ة مناوب/ة، بدى باب إحدى الغرف مزدحماً بأحذية متنوعة بأحجامها، فيها مقاس صغير لطفل/ة راح يبكي حين رافقتني ممرضة وضعت وشاحها على عجل، إلى غرفة أخرى تغط فيها سيدة موظفة في نومها. كان الطبيب يزيح ما علق به من نعس، وهو يردد على مسمعي بضرورة إعطاء طفلي تحاميل خافضة الحرارة الداخلية.

 لاحقا عاد ذلك المشهد إلى ذهني ليأخذني إلى تساؤلات عدة عن طبيعة عمل وحقوق الممرضين/ت في القطاع الصحي؟ وهل هناك مساحة أمان يستطيعون/ن التحرك خلالها، ما الخصوصية التي يتمتعون/ن بها، ما التحديات التي تواجه هذه المهنة على مدار السنوات العشر الفائتة، فاخترت المضي في متابعة البحث عن أجوبة من خلال لقاءات مع عينيات عشوائية لممرضين وممرضات في كل من مدينتي اعزاز وادلب، ورصد لجوانب عدة لتلك المهنة.

مهنة التمريض في مجتمع غير مستقر

شهدت المناطق المحررة حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي من جراء حركة التهجير والنزوح والنزوح المركب، فمن خلال لقاءات مع ممرضين وممرضات في مدينتي اعزاز وإدلب، ورصد لنظرة المجتمع لهم/ن، ظهرت آراء داعمي/ات مهنة التمريض متباينة حول دورها الأساسي في الوصول إلى وضع صحي جيد، فقد رأى اثنان( ممرض وممرضة ) من أصل ستة ممرضين/ات أن الممرضين/ات يقومون/ن بدور فعال في المجتمع، وهم يقدرون/ن جهودهم المبذولة.

وفي السياق ذاته ترى الممرضة مريم الخطيب التي حصلت على شهادة التمريض من خلال التدريبات وتعمل  في مشفى النسائية  بمدينة اعزاز أن النظرة الاجتماعية بحق الممرضات لا تزال غير إيجابية، وتقول:” كانت النظرة الاجتماعية تجاه الممرضات/ين سيئة، وتطال سمعة الممرضات/ين قبل الثورة، بسبب ارتباط القطاع الصحي بالمؤسسة الأمنية، لأن المناوبات الليلية، كانت تقتضي مبيت العاملات والعاملين في قطاع التمريض بالمشافي، أما اليوم فقد تحسنت تلك النظرة بنسبة ضئيلة نتيجة الاستقرار الجزئي الذي تعيشه المنطقة وتعدد المشافي سواء الخاصة والعامة، إضافة إلى التغيير المجتمعي بعدد السكان جراء النزوح من مناطق أخرى، وانعدام الفصائلية حيث أن المنطقة تتبع لفصيل واحد يعمل بالتعاون مع المجلس المحلي على حفظ الأمن في المنطقة. وتردف مريم:” ما زلت أعاني من حديث الناس عن مناوباتي الليلة”. ويزيد الأمر صعوبة لدى مريم في أنها لا تأمن على أطفالها في أوقات مناوباتها مما يدفعها لاصطحابهم معها إلى المشفى، وتقول:” إنني أصطحب أطفالي معي إلى المشفى على الرغم مما يشكله وجودهم معي من إرباك ومخاوف أخرى ولأنه لا يوجد مكان مخصص للأطفال في المشفى يتعرضون لمواقف أكبر من عمرهم”.

في حين يرى الممرض أحمد الهبالي المهجر من حمص ويعمل في مشفى الأهلي بمدينة اعزاز أن التوعية الاجتماعية مهمة على صعيد دور التمريض، ويقول:” إن المجتمع يحتاج لوعي أكبر لأهمية ودور الممرضين/ات في المجتمع والأخطار والصعوبات، التي تواجههم/ن”. ويضيف الهبالي أن دراسته في المعهد الطبي بمدينة حمص كانت بسبب تشجيع الأهل، الذين كانوا يعتبرونه طبيب العائلة.

ويعبر الهبالي عن صدمته من نظرة المجتمع لمهنة التمريض، التي تصنف مهنة التمريض أقل شأناً من باقي المهن،  من حيث الأجور وأنها مهنة تحتاج إلى بذل جهد وسنوات دراسية أقل، ويعتبر المجتمع أن بحضور تدريبات إسعافات أولية وبعض المعلومات يمكن الحصول عليها وبناء عليه هو يحاول من خلال عمله إثبات أهمية المهنة ودورها الريادي في المجتمع.

في المقابل تجد الممرضة ريم المصري في مشفى السلام بمدينة إدلب، حاصلة على شهادة معهد صحي:” أن المجتمع المحيط بها بدأ يدرك أهمية عملها، ويقدر جهودها المبذولة والخطر، الذي يحيط بالممرضين/ات العاملين في مشافي ادلب بسبب استهداف (نظام الأسد) لهم.

ومن خلال استطلاع آراء ممرضين/ات، أجري مع عشرة من العاملين/ات في القطاع التمريضي، في كل من إدلب واعزاز، رأى اثنان (ممرض وممرضة) يعملان في مشفى السلام في ادلب أنهما لا يعانيان من نظرة المجتمع لهم، في حين رأى خمسة (ثلاثة ممرضات في مشفى النسائية والمشفى الوطني في مدينة اعزاز وممرضان في مشفى الوطني/اعزاز ) أنهم/ن يواجهون/ن اتهامات تصل لسوء سمعة من المجتمع القريب منهم/ن والبعيد، فيما رأى ثلاثة منهم (ممرض في السلام وممرضة في مشفى السلام وممرضة في مشفى الوطني بمدينة اعزاز) أنهم لا يعيرون بالاً لحديث المجتمع  عنهم/ن.

سياسات واجراءات محدودة

في عملية رصد للسياسات والإجراءات الموجودة على صعيدي المناوبات والخصوصية في اثنين من مشافي مدينة اعزاز ( المشفى الوطني ومشفى النسائية) ومشفى واحد في إدلب (مشفى السلام)، يظهر أن إجراءات وسياسات المشفيين لا تغطي نقص الكوادر في حالة المناوبات، ولا تؤمن بيئة مريحة للمرضين/ات على صعيد الخصوصية.

على صعيد الإجازات

كسائر الناس يتعرض الممرضون/ات لمناسبات، أو أحداث في حياتهم/ن، أو لطارئ صحي يصيبهم/ن لكنهم غير قادرين/ات على تلبية ما يحدث لهم/ن بيسر وسهولة كباقي الناس، فالممرض عبد الله الأحمد في مشفى السلام في ادلب يعاني من إيجاد بديل عنه في حال أراد الحصول على إجازة، يقول:” لا أستطيع أن أخذ إجازة إلا في حال وجدت من ينوب عني في عملي من زملائي، وهذا أمر غير متاح في بعض الأحيان”. ويضيق الأحمد ذرعا من سياسة المشفى التي لا تسد حاجة أساسية في أنظمة العمل، ويقول:” حتى لو كنتُ في حالةِ مرض ٍأو حالةٍ اضطراريةٍ، فإن سياسة المنظمة، التي تدعم المشفى لا تتيح لي أخذ إجازة وكذلك سياسة المشفى”.

الأمر ذاته ينطبق على الممرضة سارة المحمد، التي تجد صعوبة بتأمين بديل نسائي في المشفى الوطني، التابع إداريا لوزارة الصحة في الحكومة السورية المؤقتة بمدينة اعزاز، والممول من الجانب التركي، تقول:” إن سياسة المشفى لا تسمح لي بأخذ إجازة إلا في حال قمتُ بتأمين ممرضة بديلة من زميلاتي تنوب عني، إضافة إلى أنه لا يوجد في سياسات المشفى إجازات للأمومة، ولكن إجازة الأمومة تحسب من الإجازات المرضية”.

في ظل عدم وجود سياسة الأمومة تضطر المرأة الحامل إلى أخذ إجازة مرضية وبالتالي تخسر عدد من الأيام المرضية ، وبعض الممرضات قد تضطر أحيانا إلى طلب إجازة بلا راتب ، والأمر لا يقتصر على النساء فقط، فعدم وجود إجازة أمومة يؤدي إلى عدم وجود إجازة الأبوة.

على صعيد الخصوصية

من جانبها الممرضة عبير سليمان في المشفى الوطني بمدينة اعزاز، تقول:” لا يوجد خصوصية لنا نحن الممرضات المناوبات في أبسط الحقوق، نحن نتشارك مع المراجعين وكادر المشفى الحمامات، حتى انني تعرضت لموقف محرج عندما كنت كاشفة عن يدي للوضوء وتفاجأت بمريض يريد دخول الحمام، من بعد ذلك أصبحت أطلب من زميلتي ان ترافقني وتحرس لي الباب).

على العكس من ذلك في مشفى النسائية/ اعزاز يوجد حمامات مخصصة للسيدات ولكادر المشفى، كونها مشفى خاصة بالنساء فقط، الأمر ذاته في مشفى السلام في ادلب، تقول الممرضة فاطمة الكنش:” لا يحدث اختلاط لدينا في المشفى، فالمريض يعالجه ممرض من المشفى، والمريضة تساعدها ممرضة بمعالجتها، يوجد فصل بين السيدات والرجال لدينا”.

على صعيد التحرش

لا تقتصر السياسات في عدم وضوحها في المشافي، التي جرى إعداد التقرير فيها والضيوف الذين جرت مقابلتهن/م على موضوع الخصوصية، إنما تتعداه إلى مواقف محرجة في بعض الأحيان، قد تصل إلى التحرش، تقول الممرضة صفاء الابراهيم العاملة في مشفى ادلب:” إنه يوجد فصل بين النساء و الرجال، ويوجد جهاز ضبط الأمن في المشفى يمنع حدوث أية مواقف محرجة”. على العكس من ذلك ما حدث للممرضة  «فضلت عدم ذكر اسمها»، عاملة في مشفى الوطني في اعزاز، تقول:” تعرضتُ لموقفٍ محرجٍ مع أحد المرضى (عندما كنت أضع القسطرة الوريدية للمريض وأعتني به، بدأ يسمعني كلاما من نوع الغزل، بل أراد الحصول على رقم هاتفي، لكنني رفضت، وطلبت من أحد زملائي الاعتناء به”.

 من جانبه الممرض عبد الرحمن نبوت في المشفى الوطني باعزاز أيضا، فيقول:” إحدى السيدات المريضات وبسبب اعتنائي بها، عرضت لي رقم هاتفها للتواصل خارج نطاق المشفى بحجة الاطمئنان على صحتها ومتابعتها، علما أن صحتها كانت جيدة ولا تحتاج الى متابعة وأخبرتها بذلك.

من بين عشرة ممرضات وممرضين هم العينة السابقة ذاتها، ست ممرضات وأربعة ممرضين  جرت المقابلة معهن/م والحديث عن التحرش، يوجد اثنان منهن/م تعرضا لمحاولات تحرش انحصرت في مشفى اعزاز فقط.

أجور أقل

في حديث عن الأجور المالية، اجمع الممرضون/ات العشرة، الذين جرت مقابلتهم بعدم مناسبة الأجر مقابل الجهد المضاعف المبذول، حيث يتراوح متوسط الراتب بين 150 إلى 250 دولار في الشهر، ويختلف أحيانا بحسب المنظمة الداعمة، باستثناء المشفى الوطني في اعزاز، فإن الراتب محدد كون المشفى تابع إداريا لوزارة الصحة في الحكومة السورية المؤقتة.

أطفال في غرفة المناوبة

لا يزال صوت بكاء الطفل/ة الصادر من غرفة الممرضات المناوبات في مشفى النسائية بمدينة اعزاز ذلك الفجر صداه في أذني، وظل السؤال لدي ماذا يختزن أطفال الممرضين/ات المناوبين/ات في ذاكرتهم من خلال ما يشاهدونه من حوادث أثناء تواجدهم مع أهاليهم، من بين ثلاث ممرضين/ات (ممرضة في مشفى النسائية في اعزاز وممرض وممرضة في المشفى الوطني في اعزاز) جرى الحديث معهم عن أعباء إضافية تضاف على عملهم، حيث يصطحبون أطفالهم معهم/ن إلى المشفى.

 تقول الممرضة سناء الحسين  في مشفى النسائية بمدنية اعزاز: “ابني الصغير يناوب معي في الليل لأنه ليس لدي أحد أتركه عنده أثناء دوامي، وهو ينام معي في الغرفة المخصصة للمناوبات الليلية، أحزن عليه لأنه يضطر للاستيقاظ في أغلب الأحيان معي في الحالات الإسعافية، ويتعرض للتوتر في النوم، إضافة إلى خوفي الشديد عليه من أن ينتقل إليه أي فيروس، ولكنني مضطرة إلى ذلك حيث لا يوجد مكان مخصص للأطفال كروضة أو حضانة في المشفى “.

 أما الممرض أسامة الخليل في المشفى الوطني بمدينة اعزاز فيقول:” اضطر لأضع أطفالي عند والدتي أثناء مناوبتي الليلة، كونني لا أستطيع اصطحابهم معي إلى المشفى، لأنني أخاف عليهم من الأمراض المعدية وخاصة في موجة انتشار فيروس كورونا”.

قضية مهنة التمريض وما يعتريها من تفاصيل غائبة عن التفكير الجمعي والمرتبط بأنها مهنة إنسانية فقط، ليست واقعة على عاتق  أصحاب وصاحبات تلك المهنة، إنما هي قضية ودور مجتمعي بحاجة لمن يناصرها ويسلط الضوء على جوانبها المختلفة للوصول إلى مجتمع صحي حقيقي.

جرى إعداد هذا التقرير في كل من مشفى النسائية والمشفى الوطني بمدينة اعزاز، ومشفى السلام بمدينة إدلب، ضمن مرحلة المتابعة والإرشاد مع شبكة الصحفيات السوريات.