طريق شاقة للوصول إلى بيئة عمل آمنة وملائمة للنساء في شمال شرقي سوريا

هوزان هادي

تم إنتاج هذه المادة خلال مرحلة المتابعة والإرشاد في برنامج “النساء والسلام والأمن”، من مؤسسة شبكة الصحفيات السوريات، وبإشراف الصحفية لمى راجح. حُرر ونُشر بالتعاون بين حكاية ما انحكت، وشبكة الصحفيات السوريات.

اضطرت دنيا فواز، المديرة السابقة لإحدى مكاتب منظمة مجتمع مدني في مدينة القامشلي في شمال شرقي سوريا، أن تترك منصبها الإداري وتعمل بدوام جزئي في قسم آخر ضمن المنظمة، لينتهي بها المطاف مستقيلة عن العمل بعد سبع سنوات قضتها في العمل المدني، وذلك بسبب عدم قدرتها على التوفيق بين العمل والاعتناء بأطفالها الاثنين. تقول فواز إنّ ابنها البكر قد عانى من تأخر في النطق “بسبب ظروف عملي وعمل زوجي، الذي يعمل هو الآخر في منظمة مجتمع مدني لا تمنحه سوى إجازة أبوة لا تزيد عن 15 يومًا عند إنجاب الزوجة” وتؤكد بأنه “لم تكن هناك أي مَرافق مخصصة للإرضاع أو لحضانة الأطفال بالرغم من مطالباتي المتكررة”.

يؤكّد عباس موسى، مدير لأحد مشاريع منظمة ديموس وهي منظمة مجتمع مدني تنشط في شمال شرقي سوريا، أنّ المنظمة “تمنح إجازات أمومة مدفوعة الأجر للعاملات فيها، كما تخصّص للمرضعات منهنّ ساعات للإرضاع” إضافة إلى أنّها تمتلك سياسات خاصة بالنوع الاجتماعي، حيث قامت بتحديد إجراءات خاصة مراعية لخصوصيّة النساء، من الموظفات ومن النساء اللاتي تستهدفهن المنظمة على حدّ سواء.

تكثر المؤسسات الإعلاميّة ومنظمات المجتمع المدني العاملة في شمال شرقي سوريا، لكنّ معظمها يفتقر لبيئة ملائمة لخصوصيّة النساء، وبحسب الصحفية والناشطة النسويّة فيان محمد، فإنّه “كانت هناك بيئة مساعدة لتشكيل المؤسسات الإعلاميًة ومنظمات المجتمع المدني في المنطقة، والتي نجحت في استقطاب نسبة جيدة من النساء للعمل فيها، لكن للأسف هذه البيئات لم تحاول أن تتلاءم مع احتياجات النساء، ومع مرور الوقت أصبح العمل ضمن هذه المؤسسات مقتصرًا على أعداد محدودة منهنّ”.

تخضع مناطق شمال شرقي سوريا لسلطة “الإدارة الذاتيّة” التي أصدرت حديثًا “قانون العاملين المُوحّد” المزمع تنفيذه قريبًا، والذي ينظم شؤون العاملين/ات في الوظائف العامة في مناطق الإدارة الذاتية، وتنص المادة (53) منه على منح إجازات أمومة مدتها 90 يومًا عند كلّ ولادة، إضافة إلى تخصيص ساعة إرضاع مُتصلة وحيدة يوميًا للمُرضعات اللاتي لا تتجاوز أعمار مواليدهنّ سنة واحدة.

تقول ماريا حنا، المديرة المشتركة لإذاعة سورويو، وهي إذاعة محليّة يقع مقرها في مدينة قامشلي، إنهنّ/م يعتمدن/ون نظام إجازات يقوم “بمنح النساء إجازات ضمن فترة الحمل، وخاصة ضمن الشهور الثلاثة الأولى، حين يكون خطر الإجهاض مرتفعًا، بالإضافة إلى ذلك تُمنح إجازة أمومة لمدة ثلاثة أشهر بعد الولادة، وحتى في حال كانت المرأة ملزمة بالعناية بأطفالها في يوم ما، فإنّنا نمنحها الفرصة كي تعمل من المنزل”.

بينما تعبّر شيرين تمّو عن امتعاضها من نظام الإجازات الخاصة بالنساء في إحدى المؤسسات الإعلاميّة العاملة في المنطقة، والتي عملتْ فيها مراسلةً صحفيّة مدة عامين ونصف العام دون إجازة. وحين تعبت من استمراريّة العمل، طالبت شيرين بإجازة (استراحة)، ولكن إدارة المؤسسة لم توافق على طلبها، تقول شيرين “بالنسبة للنساء، كانت تُمنح إجازات في حالات الزواج والإنجاب، بينما لم تُمنح الإجازات في حالات الحمل والإرضاع، علاوة على أنّ الإجازة الممنوحة لا تتجاوز أيامًا، ولا تفي بالغرض”. تسرد شيرين معاناتها في الاعتناء بأطفالها لوحدها في ظل غياب زوجها الذي كان يعمل حينها خارج البلاد، وتقول إنها أحيانًا كانت “تحبس” أطفالها الثلاثة معها في غرفة واحدة لحضور اجتماع عمل شهري عبر الانترنت يمتدّ لساعات.

لا تقتصر توفير بيئة العمل الآمنة والملائمة للنساء على منحهن إجازات فقط، بل يتعدى الأمر إلى حمايتهن من التحرّش والاستغلال الجنسي ضمن بيئة العمل، وهو ما أعلنت عنه منظّمة العمل الدوليّة ضمن “اتفاقيّة منظّمة العمل الدوليّة بشأن القضاء على العنف والتحرّش في عالم العمل رقم 190 لعام 2019″، حيث وضعت معايير عالميّة جديدة تهدف إلى إنهاء العنف والتحرّش في عالم العمل.

تتّبع إذاعة سورويو، ما أسمته ماريا حنا بـ”الضوابط التي من شأنها الحدّ من التحرّش، كمنع اللمس بين العاملين/ات أو التلفظ بألفاظ خارجة عن الحدود الأدبيّة بدعوى المزاح” وتتخذ الإذاعة لأجل ذلك سلسلة من الإجراءات بحق المتلفظ/ة “بألفاظ غير لائقة” تبدأ بتنبيه الفاعل/ة شفهيًا وتنتهي بالفصل، وفي حال حدوث التحرّش “فإنّ العقوبة تكون الفصل الفوري، والتحويل إلى الجهات الأمنيّة للمحاسبة وفق القانون الخاص بالمرأة الساري في مناطق الإدارة الذاتيّة” بحسب ماريا.

نفت ماريا حدوث أيّة حالة تحرش في الإذاعة التي تديرها، وكذلك نفت كلّ من شيرين ودنيا تعرضمها، أو تعرض إحدى زميلاتهما للتحرش أو الاستغلال الجنسي. ومع ذلك، قد لا يبدو الأمر مريحًا تمامًا، فثقافة الـ”عيب” وإلقاء اللوم على الناجية، هي السائدة. إضافة إلى غياب إجراءات واضحة للإبلاغ، وهو ما يضع عبئًا إضافيًا على عاتق المؤسسات الإعلاميّة ومؤسسات المجتمع المدني في زيادة التوعية، وابتكار آليات إبلاغ أكثر ملاءمة للسياق المحلي.

سياسات ينقصها التطوير

على الرغم من وجود بعض المحاولات لتحسين بيئة العمل حتى تكون آمنة وملائمة للنساء العاملات في الإعلام والمجتمع المدني، إلّا أنّها لا ترقى للمطلوب فيما يتعلّق بتطوير القوانين والآليات الخاصة بتوظيف النساء وبناء قدراتهن، بحسب ما تصفه فيان محمد، الناشطة النسويّة التي درّبت فرق عمل العديد من المؤسسات الإعلاميّة في شمال شرقي سوريا، على مراعاة الحساسيّة الجندريّة في العمل الصحفي. تشير فيان إلى أنّ العديد من هذه المؤسسات لا زالت تتعامل مع النساء كواجهة فقط، ومن أجل الحصول على المنح.

عن التناقضات التي تظهر بين قوانين بعض المؤسسات وما يتم تطبيقه على أرض الواقع، تقول دنيا فواز إنّ المنظمة التي عملت بها، كانت تتبع ما أسمته بـ”الإدارة التشاركيّة وسياسة الجندر، التي كانت تُمنح بموجبها إجازات الأمومة وساعات الرضاعة وإجازات الأبوة والتبني” ولكن، بحسب دنيا، فقد كان هناك تعارض بين هذه السياسات وما يجري على أرض الواقع، تقول “في الوقت الذي كنا فيه نمكّن النساء حقوقيًا وسياسيًا وجندريًا، كانت النساء في المنظمة يعانين من غياب بيئة ملائمة لخصوصيتهن الفيزيولوجيّة، إضافة إلى ضغوط من ناحية ساعات العمل الطويلة” وتضيف “معظم المنظمات، سواء الدوليّة أو المحليّة، توحي بأنّ التوازن الجندري محصور بوجود توازن في تمثيل الإناث والذكور، وتتغاضى عن، أو تحجب جوهر المفهوم، وهو البعد الاجتماعي والحقيقي للجندر”.

مراعاة ظروف الدورة الشهريّة للمرأة العاملة: خطوة بحاجة لخطوات

في عام 2012، أجرت مؤسسة برمنغهام البريطانية للنساء والأطفال، دراسةً خلصت إلى أن %20 من النساء يعانين مما يسمى علميًا بـ”عسر الطمث” أو “آلام الدورة الشهريّة”، إلى الحدّ الذي يعيقهنّ من القيام بالأنشطة اليوميّة، الأمر الذي دفع بعدد من الحركات النسويّة للمطالبة بتطبيق سياسة «إجازة الدورة الشهريّة»، وهي عبارة عن إجازات مدفوعة الأجر تُمنح للنساء العاملات خلال فترة الحيض.

تقول ماريا حنا إنّ “نظام الإدارة المشتركة المطبق في إذاعة سورويو يُسهل على العاملات فيها التوجه للمديرة المشتركة، والإفصاح عن شعورهن بآلام وإجهاد الدورة الشهريّة، ويتم منحها إذنًا بالانصراف تحت يافطة “ظروف صحيّة خاصة” وذلك لتجنب “الحرج” على حدّ وصفها، في حين يقول عباس إنه “لم يرد ذِكر إجازات الدورة الشهريّة ضمن سياسات منظمة ديموس، إلّا أنّنا نقوم بمنح إجازات صحيّة للنساء فيما لو طلبنها”.

في حين لا توجد سياسات واضحة فيما يخص إجازات الدورة الشهريّة، بحيث يتم منح الإجازات كإجراء غير مدعوم بسياسة، وهو أمر من شأنه ألّا يُطبّق بشكل فعلي كونه يخضع لتقدير المديرين/ات، فإنّ “ديموس” و”سورويو” لا تعتمدان أيّة سياسات أو إجراءات من شأنها تأمين وسائل صحيّة وآمنة للدورة الشهريّة بالمجان للنساء العاملات فيهما. وتبدأ التكلفة الشهريّة لهذه المستلزمات في شمال شرقي سوريا من 20000 ل.س (6 دولار أميركي) وقد تصل إلى الضعف، الأمر الذي من شأنه أن يضع عبئًا إضافيًا على المرأة العاملة في ظلّ ظروف اقتصاديّة غاية في السوء تعيشها البلاد.

تطالب فيان محمد بـ”أن تعمل المؤسسات الإعلاميّة ومنظمات المجتمع المدني في شمال شرقي سوريا على تعديل سياساتها بحيث يتم تضمين إجازة الدورة الشهريّة، وتوفير مستلزماتها بالمجان للنساء العاملات فيها”، وأكدت أنّ إجراء كهذا من شأنه زيادة قدرة وإنتاجيّة النساء.

من مساواة جندريّة حقيقيّة نحو بيئة عمل آمنة وملائمة للنساء

تشير تجارب المؤسسات الإعلاميّة ومنظمات المجتمع المدني في المنطقة، إلى وجود حاجة فعلية وماسّة لإخضاع هذه المنظمات والمؤسسات لتدريبات تمكّنها من مراعاة خصوصيّة النساء الفيزيولوجيّة في بيئات العمل، إلى جانب ضرورة وجود تقييم دائم لعمل هذه المؤسسات، بغيّة التأكد من الالتزام بتوفير بيئة عمل آمنة وملائمة للنساء العاملات فيها، تقول فيان محمد “إنّ أهم متطلبات النساء هي العمل على بناء قدراتهن وزيادة معارفهن ليصبحن قادرات على الاستمرار في العمل ضمن هذه المؤسسات، التي من واجبها أن توفر بيئة عمل تراعي احتياجات النساء، وأن تطبق مبدأ المساواة في المناصب والأجور، وأن تطور سياساتها لتكون مراعية للحساسيّة الجندريّة، وأن تعمل على تنظيم ورش عمل لكافة العاملين/ات فيها للتعريف بهذه السياسات والتعرّف على المفاهيم الخاصة بالمساواة الجندريّة والعنف القائم على النوع الاجتماعي وحقوق النساء”.

ظاهريًا، قد لا يبدو المشهد قاتمًا فيما يتعلق بتوفر بيئة عمل آمنة وملائمة للنساء في منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الإعلاميّة العاملة في مناطق شمال شرقي سوريا، ولكن قد يكون “ما خفي أعظم”، في ظل سواد ثقافة سائدة تلقي باللوم على الناجيات من حالات التحرّش والاستغلال الجنسي، وضمن  ظروف اقتصاديّة سيئة من شأنها أن تعزّز من بقاء هذه الحالات طي الكتمان خوفًا من فقدان الناجية لوظيفتها. وفي حين أنّ العديد من الدول تعترف قانونيًا بإجازات الدورة الشهريّة، عدا عن إسكتلندا، التي توفر مستلزمات الدورة الشهريّة لكلّ من يحتاجها من مواطناتها بالمجان، قد يجد البعض أنّه من الرفاهية الحديث عن هكذا إجراءات في بلد تطحنه الحرب منذ عشر سنوات، وقد يرى البعض الآخر إنّ الحرب، على كارثيتها، تظلّ فرصة يمكن استغلالها لحرق المراحل، على طريق تحقيق الرفاه للمجتمع، انطلاقًا من نيل النساء حقوقهنّ كاملة دون منّة.