مرضى السرطان في سوريا ورحلة البحث عن الدواء

ست الملك – اسم حركي استخدمته الصحفية

“تم إنتاج هذه المادة خلال مرحلة المتابعة والإرشاد في برنامج “النساء والسلام والأمن”، من مؤسسة شبكة الصحفيات السوريات؛ وبإشراف الصحفية زينة قنواتي”.

“عا هدير البوسطة يلي كانت ناقلتنا من ضيعة حملايا عا ضيعة تنورين..”، تغني فيروز وتردد زهر الكلمات بخجل ضاحكٍ مع خفة الصباح التشريني البارد في الحافلة بين السويداء ودمشق.

 عندما سألتها:”إيمتى كانت أكثر مرحلة وجّعتك”؟! صمتتْ.. وأنا ندمتُ على سؤالي.

اسمها زهر (مريضة سرطان الثدي وهذا اسمها الأول)، امرأة خمسينية من محافظة السويداء جنوبي سوريا؛ تقوم برحلتها هذه إلى العاصمة دمشق كلما حان موعد الجرعة.

أرافقها في هذه الرحلة المحفوفة بالأمل وحالها كحال كل امرأةٍ ورجلٍ وطفلٍ معنا في الحافلة المخصصة لنقل مرضى السرطان على حساب جمعية خيرية لتلقي جرعاتهم/ن؛ يقول أحمد: “لا أريد الجنّة..أنا أريد الحياة، ولدي أمل كزنبقةٍ سوداء تنتظرُ الربيع”. ورغم بعض الشك حول نجاح علاج السرطان الذي يشتريه بعض المرضى على حسابهم الخاص بمبالغ طائلة، إلا أنني أتمسك بالأمل معهم في هذه الرحلة التي تقلّنا جميعاً بين السويداء ودمشق.

“إن وُجدَ دواءْ.. مستحيلٌ أن يمنعه طبيبٌ عن مريض”

لأن الحديث عن حياة بشرٍ في بلادٍ عسى أن تكونَ شبعت من الموت؛ عبّر أول طبيب -فضّل عدم ذكر اسمه- قائلاً: “من المستحيل أن يمنعَ طبيبٌ هنا الدواءَ عن مريض إنْ كان متوفراً” يكرر أخصائي الأورام في مركز العلاج الكيمياوي والإشعاعي في مشفى تشرين الجامعي: “من المستحيل منذ أتيت إلى المركز، أن تجدي طبيباً يمنع دواءاً عن مريض! إلا إذا كانت الأدوية غير موجودة.” ويتابع: “حتى انقطاع الأدوية التحضيرية (ما قبل الجرعة) أمرٌ وارد، ومن الطبيعي أن يقوم المريض أو المريضة بشرائها بأنفسهم/ن كي يحموا/ين أجسادهم/ن من الألم الذي يسببه العلاج الكيماوي”

يؤكد لي الطبيب بأن مستشفى البيروني، وهي أكبر مركز لعلاج السرطان في سوريا، كمشفى جامعي مُجبَر على تقديم جزء من العلاجات للمراكز التي تحتاجها، “لكن بسبب الروتين والبيروقراطية في الإجراءات يتأخر استلام الأدوية”.

 ويتسبب التأخر باستلام الأدوية قرارات مثل إتلاف بعض الأدوية عموماً والسرطانية بشكل خاص، لانتهاء صلاحيتها بسبب طول مدة التخزين أو بهدف زيادة أسعارها! مما يزيد من معاناة المرضى للحصول على العلاج لقلته وارتفاع سعره، إلا أن إتلاف بعض الأدوية التي تصل إلى سوريا ضمن مساعدات هو أمرٌ وارد، فهذه الأدوية تصل متأخرة إلى سوريا، وتقدمها منظمات دولية كهِبات رغم قرب انتهاء صلاحياتها، ففي بعض الأحيان يكون هناك ٩ أشهر متبقية فقط حتى تنتهي صلاحيتها.

فهل تُقدَم مساعداتٌ لسوريا كأدوية تبقّى لها أشهرٌ وتنهتي صلاحيتها؟! لا تبدو الإجابة بهذه البساطة، فليس هناك مصدر معلومات مُتاح حول المساعدات الدوائية أو من أين أو متى وصلت، فضلاً عن أن تأكيد إتلافها أمر شبه مستحيل. وبطبيعة الحال فإن إجراءات استلام الأدوية تخضع لسلسلة معاملات روتينية، تستهلك كل الوقت اللازم لوصولها وتوزيعها على صيدليات ومراكز العلاج المتخصصة ثم المرضى،مما يرجح إتلافها قبل توزيعها بسبب انتهاء صلاحيتها. 

لماذا يعاني مريض/ة السرطان في سوريا إلى هذا الحد؟

يقول الاختصاصي بالأورام في مركز علاج السرطان بمشفى تشرين الجامعي: “إذا لم يكن الدواء موجوداً لدينا، من الطبيعي أن يشتريه المريض بنفسه لكن المشكلة تكمن في أن وزارة الصحة لم تطرح أي مناقصة شراء أدوية جديدة منذ عام. ومعظم الأدوية لدينا هنا في المركز قد نفذتْ، عادة عندما ينقطع الدواء كما هو الحال اليوم؛ من الطبيعي أن نحوّل المريض بعد فحصه إلى مركز حكومي آخر، وعلى الأغلب إلى البيروني في دمشق، ولا سيما خلال آخر شهرين، حيث نفذت معظم الأدوية هنا، فلم تأتينا أية أدوية جديدة في عام 2021.”

في المحصلة، قد يتم نقل المرضى مثلاً من اللاذقية إلى دمشق لمتابعة دورة العلاج بسبب انقطاع الأدوية في اللاذقية، لكن الحال مع الأسف ليس أفضل في دمشق.

ناقش مجلس الوزراء السوري خلال اجتماعه في السابع من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، صعوبات الواقع الدوائي، وأكد رئيس الوزراء حسين عرنوس يومها “أن تأمين انسياب الأدوية من مختلف الزمر يعد من أولويات الحكومة” مشدداً على ضرورة “تسهيل وتيسير إجراءات استجرار الأدوية مركزياً واتخاذ كل ما يلزم لهذه الغاية.” وبالفعل اجتمع في نفس اليوم المعنيون/ات من وزارات الصحة والتعليم والتجارة الخارجية ومصرف سورية المركزي مع القائمين/ات على شركات ومعامل الدواء وناقشوا/ن صعوبات إنتاجه ومتطلبات هذا الإنتاج.

فهل تمخض الاجتماع عن إجراءات عملية أو إسعافية سريعة؟ وهل كان كما وصفته وسائل إعلام محلية “بادرة خير لحلّ الصعوبات التي تواجه قطاع الصناعات الدوائية”؟ ولا سيما أنه من ضمن مسلسل الإشاعات التي تنتشر لدى قاطني/ات سوريا هذه الأيام، قرب انقطاع العديد من الأدوية حتى أبسطها مثل مسكّن الألم الشهير(سيتامول)!

تضحك لمى (مريضة السرطان اللمفاوي الانتقالي وهذا اسمها الأول) وهي تحدثني: “تخيلي أن طبيباً في البيروني بعد أن طلبتُ منه ممازحةً تأمينَ السيروم اللازم لآخذ جرعتي المناعية التي أشتريها على حسابي بمبلغ 600 ألف ليرة سورية عن كل مرة، يقول لي: ليس لدينا حتى سيتامول!”وتضيف: “بعت منزلي لتأمين ثمن بعض جرعات العلاج لكل واحدة 1600 دولار أو ما يقارب 4 مليون ونصف ليرة، والجمعيات الخيرية من المستحيل أن تساعدني، تواصلت مع أحدها وبعد الإثباتات والأوراق والتوصية وافقوا على إعطائي 100 ألف ليرة من ثمن كل جرعة! فرفضت لأن هذا المبلغ المُقدّم لي مضحك!.”

هل عقّد قانون الاستجرار الموحد الأمور وزاد الطين بلّة؟!

كان قرار الاستجرار المركزي للأدوية والمستلزمات والتجهيزات الطبية عن طريق وزارة الصحة، يهدف إلى الحد من الفساد في بعض المناقصات. حيث نص على أن تتولى وزارة الصحة تحديد قوائم الاحتياجات المطلوبة وتأمينها مركزياً من قبل الوزارة. علماً أن 90% من الحاجة الدوائية في السوق المحلية يغطيها 70 معملاً قيد الإنتاج في محافظات ريف دمشق وحلب وحمص وحماة وطرطوس واللاذقية. وهي تنتج كل المستحضرات الطبية باستثناء أدوية السرطان والهرمونات، هذا ما أكده رئيس المجلس العلمي للصناعات الدوائية السورية الدكتور رشيد الفيصل خلال تصريحه لوكالة الأنباء الرسمية سانا حول سعي معامل الأدوية تجاوز الصعوبات في تاريخ 21 /7/2021،مما يعني أن أدوية السرطان في مقدمة احتياجات السوق الدوائي الملّحة للاستجرار اليوم.

“وإذا لم يتوفر الدواء للمريض؛ عليه أن يشتريه هذا أمر طبيعي وإلا سيعود لنقطة الصفر في دورة علاجه”. أتذكر هذه الجملة مما قاله لي طبيب مشفى تشرين، وأن وزارة الصحة “لم تستجرّ أدوية السرطان منذ عام”. 

من يستورد أدوية سرطانية نظامية؟

وفقاً لصيدلاني في دمشق فضّل عدم ذكر اسمه، فإن الشركات التي تستورد أدوية السرطان في سوريا هي “حصراً شركة أوبري حبوش وتتوفر لديهم أدوية لمرض السرطان، أما غير ذلك فالأدوية هي مناقصات تقوم بها وزارة الصحة أو يمكن أن تأتي أدوية السرطان كدعم خارجي للمستشفيات المتخصصة مثل البيروني، وإذا كان على المريض شراء الدواء على حسابه الخاص فإن صيدليات كبيرة تبيع الدواء الأجنبي أو الحرّ وسعره مرتفع للغاية”!

يبدو أن الاستيراد النظامي لأدوية السرطان في سوريا محصور لدى شركة واحدة هي أوبري حبوش وهناك شركة ثانية على ما ذكر الصيدلاني؛ تحاول الحصول على ترخيص لاستيراد الأدوية السرطانية حصرياً أيضاً.

أما الأدوية الأجنبية لعلاج السرطانات بمختلف أنواعها خارج هاتين الشركتين فلا مستودعات تحويها وإنما وفق ما أكد الصيدلاني، يعمل في هذه التجارة أشخاص يساهمون في تهريب الأدوية عبر التواصل الهاتفي فيأتي التاجر ويضع كيس الدواء في الصيدلية التي تم الاتفاق معها، ويخرج دون أن ينتبه له أحد، لأنها قضية كبيرة في حال اُكتشف هذا الدواء في الصيدلية.

هل ارتفعت نسبة الإصابة بأمراض السرطان في سوريا؟

يقول أحد أعضاء مجلس إدارة جمعية شفاء في محافظة السويداء: “لدينا سنوياً ما يتراوح بين 165 إلى 175 مريض سرطان جديد في المحافظة”. فهل يمكن تصنيف مرض السرطان لو توفرت لدينا إحصائيات دقيقة، على أنه السبب الثاني للوفاة في سوريا؟ علماً أنه يصنف اليوم كسبب رابع للوفاة في سوريا!

ومن بين كل 1000 شخص يُصاب شخص بأحد أمراض السرطان في سوريا سنوياً، هذا بناء على عدد حالات السرطان في المشافي التي تقدم الخدمة العلاجية المجانية لمرضى السرطان في سوريا. والإشكالية هنا أن عدد حالات الإصابة بالسرطان وفقاً لعدد سكان سوريا البالغ ربما أقل من 18 مليون حالياً حيث لا يوجد تعداد سكاني (منطقي) في سوريا منذ عام 2004، وهذه الأعداد لمرضى السرطان لا تشمل كل سكان الأراضي في سوريا!

ووفق عدد من أطباء الأورام فإن معدل الإصابة في سوريا: “يُبرز ازديادها بين الإناث عن الذكور، حيث يحتل سرطان الثدي المركز الأول يليه سرطان الغدة الدرقية والقولون واللمفاوي والعظام والدماغ وعنق الرحم والبروستاتا، وأكثر المحافظات في عدد حالات الإصابة هي اللاذقية ودمشق وريف دمشق والسويداء”. 

لا مكان للاستسلام في هذا الطريق

أتذكر تفاصيل من رحلة لمى العلاجية وقوتها عندما تقاطع دموعها وتبتسم: “هل تعلمين، في بعض الأحيان أغضب لأنني مضطرة لمواجهة كل هذا”. بعد استئصال رحمها والمبايض واستيقاظها في منتصف العملية بسبب خطأ في التخدير! وبعد خضوعها لعلاج كيماوي قاسٍ ثم العذاب النفسي لتجاوز 32 جلسة مجانية للمسرّع الخطّي في مشفى البيروني بحيث لا دواء يمكن أن يسكّن الألم بعد الجلسة العاشرة بسبب الالتهابات الشعاعية الناتجة عن الاحتراق الداخلي للأعضاء، تصف لمى ذلك “لا تعرف لماذا أنت هنا ولماذا يجري معك ما يجري”. تعرضت لمى لخطأ طبي في بداية تشخيص سرطانها كما أصابتها جرثومة، انتقلت إليها من المشفى؛ بمرض شديد بعد خضوعها لزراعة البورت كاث بسبب جفاف الأوردة لديها، خضعت أيضاً لجلستي سيزيوم (وهذه عادة من أقسى العلاجات الكيماوية التي يخضع لها مريض السرطان). رغم كل ذلك تتمسك لمى بالأمل وتصرّ على متابعة العلاج بشكل مستمر فلا مكان للاستسلام في هذا الطريق.

تبدو رحلة علاج السرطان في سوريا أقسى من المرض نفسه في بعض الأحيان، وضمن الظروف الرهيبة التي تمر بها سوريا على اختلاف مناطقها، ومع تزايد الأزمات التي لا تنتهي، يبدو اجتثات الأمل أصعب من أي وقت. إلا أن كل من التقيتهم/ن كانوا/كنّ مصممين/ات على الاستمرار بالعلاج، وبالتمسك بالحياة التي يريدونها، والمقاومة ولو بشق الأنفس. لا يريد مرضى ومريضات السرطان في سوريا دعماً استثنائياً، ولكن شروطاً أساسية تؤمن العلاج، وأبسط المستلزمات كمسكنات الألم والدعم. فكل السوريون والسوريات يحتاجون اليوم إلى التسمك بالأمل من أجل حياة أفضل.

عندما التقيت زهر، كانت في طريقها لأخذ آخر جرعاتها وفقاً لطبييها المتابع، وهي الثامنة بين جرعات العلاج الكيماوي إثر استئصال ثديها الأيسر. بدأت الآن مرحلة المعالجة المناعية والتي يوفرها لها مستشفى البيروني بالمجان حتى الآن! ولا تعلم هي كما لا نعلم؛ ما الذي سيكون عليه الأمر وفقاً لنتائج تحاليلها القادمة، وليس لنا إلا تمني الشفاء لها ولكل مريض يتمسك بالحياة ويقاوم لو بشقّ الأنفس، كما هو حال مرضى السرطان في سوريا، فهم لا يحتاجون دعماً استثنائياً، لكن تأمين ألف باء علاجاتهم، بأبسط المستلزمات كمسكنات الألم والدعم النفسي، وعلى حد وصف لمى: “هل تعلمين.. كان لدينا في سوريا مجموعات دعم نفسي لمرضى السرطان، كما نشاهد في أفلام السينما تماماً؟ وكم نحتاجها اليوم.. لسنا مرضى السرطان فحسب.. ألا توافقيني الرأي؟!”.