المواطنة المنقوصة في ظل التنشئة الجندرية

ي.س (فضلت الصحفية عدم ذكر اسمها الكامل)

تم إنتاج هذه المادة خلال مرحلة المتابعة والإرشاد في برنامج “النساء والسلام والأمن”، من مؤسسة شبكة الصحفيات السوريات؛ وبإشراف الصحفية رشا الطبشي. حُرر ونُشر بالتعاون بين صدى الجنوب السوري، .”وشبكة الصحفيات السوريات

  تستند المحّددات الواضحة للمواطنة على المجرى التاريخي لعوامل تكوّنها، وفي نهاية المطاف على تعيّنها الحديث داخل حقل المشاركة الحرّة لأفرادٍ مسؤولين متساويين[1]، أي، في نسيج مبادئ المسؤوليّة والحرية والتشاركيّة والمساواة، بمعنى أنّ ثقافة الاختلاف التي تنظر للآخر بوصفه المجال المادي والمعنوي لوجود الأنا وتحققها، تصبح مضمرةً في السلوك الاجتماعي والثقافي للأفراد عامةً في ظلّ دولة المواطنة الكاملة. ولكن قد يحيل هذا التوصيف المواطنة إلى يوتوبيا، خاصةً إذا ما حاولنا أن نقرأ هذا المفهوم ضمن الواقع السوري، الذي يدور في حلقةٍ مفرغةٍ من إقصاءٍ وإقصاءٍ مضاد، فأقلّ ما يمكن ملاحظته أنّ قيم المواطنة ومبادئها تعاني تصحّراً مزمناً، أنتجه تعاقب نّظمٍ ما قبل مدنية، جعلت من التأخرَ والفوات التاريخي الضامن الرئيس لبقائها واستمرارها.


بمجرّد النظر إلى كارثية الواقع السوري، سنجد أنّ إمكانات الحلول لمعضلته المستعصية لن تتوفر إلّا في حدود دولة المواطنة، مما يعني أنّ إرساء مفاهيم المواطنة ومبادئها واجبٌ أخلاقي لجميع القوى السورية الفاعلة من دون استثناء، ومع ذلك فإنّ تأصيل هذه المبادئ يصطدم بانزياح المفاهيم عن معانيها ومحدداتها، عبر النكوص إلى تأبيد الصورة النمطيّة عن الآخر والمختلف، وذلك لغياب إمكانيّة الإدراك الفاعل، أنّ مجتمعات الصراع (المجتمعات ما قبل المدنية)، تقوّض الاختلاف، فهي لا ترى فيه سوى تهديدٍ مباشرٍ لهويتها الجمعيّة القائمة على قوميةٍ أو عرق أو دين أو مذهب، حيث يُنمّى فيها التفاضل على حساب التكامل، ويجعل علاقات التنافس والإقصاء تزيح علاقات التشارك والتعاون والمساواة. بمعنى أنّ رغبتنا في دولة المواطنة تتعثر بالرواسب التي طحنت جميع السوريين/ات برحاها.

 ما الذي يعيق تحقق مبدأ المساواة؟

تبدأ المواطنة من الإرادة الحرة للأفراد، وتنتهي بتحقيق كرامتهم الإنسانيّة، ولكنّ الكرامة الإنسانية التي يرغب الجميع بأن تظللهم/ن، لا تنفصل بأيّ شكلٍ من الأشكال عن المساواة، وإذ يعتقد الكثيرون/ات أنهم/ن على معرفةٍ بها (المساواة) ـــ على الأقل بالمعنى السياسي والقانوني ـــ إلّا أنّ فهمها واقعياً يحتجب داخل السلوك الجندري العام، فالمساواة الجندرية مازالت تبدو للكثيرين/ات بدعة تهدف إلى الهدم وليس البناء، فلو تقصّينا تعريف الجندر: بأنه التمييز القائم على النوع الاجتماعي، أي كتمييز ثقافي يبدأ في حواضن المجتمع الأولى ويتمدد في النسيج الاجتماعي عبر الحوامل الثقافيّة كافةّ، لاتّضح لنا أنّ التمييز الجنسي هو العامل الرئيس في فلترة المساواة وتقنينها، فتقسيم الأدوار الجندرية يلعب دوراً حاسماً في بناء وعي متشظي، يدعو إلى المساواة من جهة، ومن جهة يقوم بخنقها.

فالعمل منذ 2012م وحتى الآن للخروج  بدستورٍ سوريّ جديد، يتحقق من خلاله نظام ديمقراطي تشاركي يفصل بين السلطات، ويساهم في تهيئة مجتمع يتساوى فيه الجميع بالحقوق والواجبات، وفي ضمان حقوق الأفراد والحريات الأساسية واحترامها وحمايتها، يتناقض مع الكثير من المقترحات الدستورية للمجتمعات المحلية السورية[2]، فأن تتفق الأغلبية على أن يكون رئيس الدولة مسلماً من أب وأمّ سوريين ـــ دون إشارةٍ واضحة لأحقية المرأة بهذا المنصب ـــــ والفقه الإسلامي مصدراً رئيسياً للتشريع، هذا لا يعني فقط استثناء الأقليات من حساباتها، بل وتحجيماً لحقوق النساء،ابتداءً من تكريس وضعيتها الاجتماعية وتبعيتها للرجل، انتهاءً بتهميش وصولها للمناصب السياسية، إنه إخلالٌ بمبدأ المساواة وبأهم بنوده في أن يتساوى جميع الأفراد بالحقوق والواجبات، وبالتالي انتقاصٌ من المواطنة نفسها، لذلك من الضروري أن تقترن عملية تغيير العلاقات المؤسسة للسلطة بتغيير زاوية النظر إلى الذكورة والأنوثة، ووضعهما معاً تحت مقولة الإنسان، وإلا فإنّ أي تغيير سيظل ناقصاً وهشاً، وضرباً من التلاعب الذكوري، البطركي، بالقضايا الاجتماعية والإنسانية[3]، ولكي نغير زاوية النظر إلى الذكورة والأنوثة علينا أن نبدأ بالحواضن الجندرية الأولى أي الأسرة.

كيف تساهم الأسرة بتحديد الأدوار الجندرية؟

 فالأسرة في مجتمعنا كما في المجتمعات العربية تبدأ برسم العلاقات بين الجنسين من خلال التنشئة الجنسية، أي بناء هوية الفرد النوعية gender identity[4]، والتي تعيد إنتاج العلاقات والقيم البطريركية عبر التمييز على أساس الجنس (ذكر، أنثى) في الحريات والمسؤوليات والامتيازات، فتتحول ذكورة الرجل إلى سلطة وامتيازات تمنحه موقعاً اجتماعياً مسيطراً، يضع المرأة في منزلة أدنى، لتتحدد الأدوار بالتابع والمتبوع، بالفاعل والمفعول به، فتوظيف الجنس البيولوجي من أجل بناء النوع الاجتماعي يؤسس لعلاقة تراتبية بين الرجل والمرأة، تمتد إلى جميع البنى الثقافية في المجتمع، وتنشط جميع هذه البنى في تكريس الاختلاف البيولوجي في أذهان الأفراد  كمنتِج طبيعي للتراتبيات مع الحرص على عدم تخطيه، أي أنه معطى بيولوجي ثابت وغير قابل للتجاوز[5]، مما يقوّض التعامل مع هذه التراتبية على أنها فعل بطريركي تاريخي اجتماعي قابل للتجاوز.

 لماذا تدعم السلطة الاستبدادية جندرة الحواضن الاجتماعية؟

إنّ التنشئة الجنسية التي تبدأ بالحاضنة الأولى وهي الأسرة وتمتد إلى باقي الحواضن الاجتماعية المتداخلة فيما بينها تخلق نوعاً مغلقاً ومحدداً من المعرفة، تستثمره السلطة الاستبدادية بدعمه وتعميقه وتعميمه على مؤسساتها الثقافية، حيث يمكّنها من تغذية الجوانب اللاعقلانية في الأفراد، وتعطيل ملكة الفهم عبر تحييد التفكير المنطقي وتشويشه، وهذا ما يفسح الطريق أمام تعميم نموذج ثقافي لسلوك اجتماعي مُصمَّمٍ على أساس هويّاتٍ مجندرة، تشكّل فيما بعد بُنى اجتماعيّة مجندرة، ضمن معانٍ رمزيةٍ مجندرة، لتشكّل علاقات سلطة هرمية[6]، تجعل الأفراد يدافعون عن القيود التي تعطّلهم وتشلّ وجودهم، فالمجتمع المجندر هو البيئة المثالية لسلطة الاستبداد، وهنا تصبح المساواة الجندرية مساراً إجبارياً لانتقال المجتمعات البطريركيّة إلى المجتمع المدني ودولة المواطنة، التي تستبدل الهوية الجنسية للأفراد بهويتها الإنسانيّة.

ما هو المسار الذي يفضي إلى الهوية الإنسانية؟

لا يمكن لسلوك الأفراد أن يتغيّر إلّا عبر تربيةٍ تعمل على تهيئة البنى الاجتماعية لاحترام حرية وإنسانية الفرد، فالتربية على الحرية والمساواة والاختلاف أو ما يمكن أن نسمّيها التربية على المواطنة، تأخذ في النماء من خلال التربية الجنسية، وذلك عبر دحض التصورات التقليدية بأدوات المعرفة والفهم، فـالتربية الجنسية هي اكتساب معارف بيولوجية علمية، ومواقف إيجابية، وممارسات مساواتية خاصة بالسلوك الجنسي، فالمزاوجة بين معارف علمية وقيم ضد بطريركيّة، هي ما يشكل التربية الجنسية[7].

إنّ مفهوم التربية الجنسية الذي  يحمي الذكر والأنثى على السواء، ويحرّر الرجل من رؤية المرأة كموضوع للرغبة، ويحرّر المرأة من لعب هذا الدور والانصياع له، هو مفهومٌ مرفوضٌ في مجتمعاتنا، فعلى الرغم من نشاط الحركة النسوية في حقوق المرأة والطفل، لكنّ موضوع التربية الجنسية يُعتبر من أقلّ المواضيع أولويّة ضمن مشاريعها ومخططاتها وأجنداتها، وذلك لمواجهتها من قبل المجتمع[8]، حيث غالباً ما يتم ربط هذا المفهوم بصور الانحلال الأخلاقي، فيتم استبداله بمفاهيم أخرى كالتربية السكانية أو الصحية أو الإنجابية، لتبقى المناهج التعليمية امتداداً للتنشئة الجنسية ذات القيم البطريركيّة، التي تُبقي على المعارف العلمية معارف نظرية مقفلة، وعلى الأدوار التمييزية كتكريس للصور النمطية التي تبدأ من مطبخ الأسرة.

تغيّر الأدوار التمييزية للمرأة السورية في ظل الحرب: هل يفضي إلى المساواة؟

تغيّر الأدوار النمطية للمرأة السورية لم يولد من مبدأ المساواة كمقدمة، وإنما بحكم السنوات الطويلة للحرب والتهجير، والنزوح واللجوء، والضغوطات السياسية والاقتصادية، ولم يُفضِ أيضاً إلى المساواة كنتيجةٍ، فهناك تباين في آراء النساء حول ذلك[9]، فمنهنّ من اعتبرت ما حدث ليس تغيّراً في أدوار النساء، بل أنه انزياح لأدوار الرجل باتجاه أدوار المرأة بسبب غيابه، وأنّ هذا التغيير فرض نفسه عليهن وألقى أعباءً مضاعفة، ومنهنّ من تفتقد وجود الرجل بمعناه التقليدي، ومنهنّ من ترى أنّ التغيير ليس جذرياً وليس واعياً، وأنه قد يتغير بأيّ لحظة، ومنهنّ من ترى أنّ التغيير جاء دون تخطيطٍ وبدفعة واحدة دون تدرّج، فلم تكتسب النساء الوعي الكافي لاستقبال هذا التغيير والتفاعل معه بشكل صحيح، واعتبرت معظمهن التغيير تغييراً ظاهرياً وليس حقيقياً كوصفٍ للتغيرات التي تحدث على أدوار المرأة. 

وهناك من ترى أنّ الثورة التي قامت في سوريا كان يجب أن تقوم أولاً على النظام البطريركي، على الرجل الذي لا يسمح لزوجته وابنته بإعطاء أيّ رأي، والذي يعتبر أنّ المرأة مهما بلغت من العمر ومهما اكتسبت من خبرات في حياتها تبقى  ضعيفة وتحتاج إلى حماية الذكر ورعايته، وهناك من تستمتع بحياتها بعيداً عن تسلّط العلاقات الزوجية، فبعد اكتشافهن لقدراتهن وخلقهن لمساحاتهن الخاصة، أعدن النظر بمؤسسة الزواج  التي تربط المرأة  بالرجل ربطاً تقليدياً يكرّس تبعيتها له وقوامه عليها، فلم يعدن يرضين بهذه المؤسسة إلا إذا تعامل الطرفان الرجل والمرأة مع بعضهما بشكلٍ ندّي وعادل يحترم كل طرف فيه الآخر.

كيف نؤسس لوعي مدني؟

إنّ ما حدث من تغيير للأدوار لم يولد من مبدأ المساواة كمقدمة له، ولم يفض إلى المساواة كنتيجة عنه، ولكنه بالتأكيد قد خلخل النظام الأبوي، هذه الخلخلة التي يمكن استثمارها في التأسيس لأرضية مساواتية عبر خلق وعي مجتمعي شامل، وعي يدرك أنّ التمييز الجندري لا يقتصر على حدود ثنائية رجل وامرأة، بل يتعداه إلى النوع الاجتماعي الواحد، وآثاره الكارثية لا تقتصر على المرأة وحدها بل تطال الرجل أيضاً، وقد لمسنا العنف الجندري الذي مارسته سلطات الأمر الواقع خلال سنوات الحرب السورية وما زلنا نلمسه، فالأثمان المرتفعة التي تكبّدها كل من الرجل والمرأة، كانت الحرب مسبباً لها، ولكنها أيضاً نتيجة لمقدماتنا، لقد أسسنا لها عبر تنشئتنا التي عملت على كبت جنسانية أطفالنا، وساهمت في تشكّل عقدة تفوق الرجل وخضوع المرأة له، وأسست للعلاقات التراتبية[10]، إنها المقدمات التي تنكّرت لمفهوم التربية الجنسية خوفاً من زعزعة مرتكزات السلطة البطريركية. 

 لذلك يتوجّب بالتوازي مع العمل السياسي والحقوقي، العمل مع وعلى القاعدة المجتمعية، التي تحتاج إلى تزويدها بتحليل جندري للواقع السوري عبر سنوات الحرب، يساعدها على فهم الكثير من الآثار الفادحة التي خلّفتها الحرب كانعكاسٍ للتنشئة الجنسية، أي ربط النتائج بالمقدمات، وهذا ما يمنح مقبولية مجتمعية للتغيير، يساعد في التأسيس لتربية جنسية، تنحو باتجاه علاقات أفقية تدعم التنمية والديمقراطية، وتساهم في تحقق المساواة بين الجنسين في المجال الخاص، وتمهد الطريق لمجتمع مدني يتبنى مبادئ المواطنة قولاً وفعلاً في المجال العام. إنّ عدم المساواة في المجال العام هو امتداد لعدم المساواة في المجال الخاص[11]، وبالتالي فإنّ القوانين يمكن أن تكون رافعة للمجتمع، إذا صاغها الوعي المدني، وفي الحالة السورية، يبدو السعي إلى تحقّق دولة المواطنة كقفزة في الهواء، أو في أحسن الأحوال دولة مواطنة منقوصة إذا لم يؤَسَّس لوعي مغاير، يشرّع لإنسانية عادلة وفاعلة.


[1] – دليل المواطنة، القسم النظري، إعداد الرابطة السورية للمواطنة بدعم من مؤسسة HIVOS الهولندية، الطبعة الأولى 2016، بيت المواطن للنشر والتوزيع، دمشق، الجمهورية العربية السورية

[2] – وحدة دعم الاستقرار، مقترح دستور من المجتمعات المحلية السورية، مشروع المجتمع المحلي في العملية السياسية والدستورية

[3] – جاد الكريم الجباعي، من الرعوية إلى المواطنة، الطبعة الأولى 2014، النشر: أطلس للنشر والترجمة والنتاج الثقافي، بيروت، لبنان

[4] – عبد الصمد الديالمي، سوسيولوجيا الجنسانية العربية، الطبعة الأولى 2009، النشر: دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان

[5] – نفس المصدر

[6] – كارول كوهن، المرأة والحرب، ترجمة: ربى خدام الجامع، تدقيق: ضحوك رقية، الطبعة الأولى: 2017، النشر: الرحبة للنشر والتوزيع، دمشق، سوريا

[7] – نفس المصدر، سوسيولوجيا الجنسانية العربية

[8] – استطلاع رأي لناشطات في منظمات نسوية عبر شبكة الصحفيات السوريات

[9] – بحث قراءة معمقة للنساء السوريات حول الراهن والمستقبل والمفاهيم المتعلقة بهما: عن الهويات، الأدوار الجندرية، العنف، العدالة والسلام وسيناريوهات العودة إلى سوريا، إعداد وكتابة منظمة النساء الآن، قسم الأبحاث النسوية التطبيقية

[10] – نفس المصدر، سوسيولوجيا الجنسانية العربية

[11] – زهير كسيم، الجندر والتربية الجنسية في النظام التعليمي المغربي، مجلد1، عدد2، 2015، مجلة كحل لأبحاث الجسد والجندر