لا استسلام أمام كورنا.. الصراع من أجل لقمة الخبز

حكاية تروي تفاصيل كفاح ونضال منيرة يوسف من مدينة القامشلي مع الحياة وصعوباتها في بلد الحرب منذ أعوام. هذه الحرب التي دمرت الكثير، ومنها إرادات الناس قبل أن تحطم حيواتهم. إلا أن هناك من لم يسمح للحرب، رغم كل شراستها أن تحطم إرادته، منهم منيرة التي واجهت الحرب بإرادة فولاذية قوامها الأمل والعمل.

منيرة يوسف مع والدتها في منزلهم في حي الهلالية في مدينة القامشلي

منيرة يوسف مع والدتها في منزلهم في حي الهلالية في مدينة القامشلي


(تنشر هذه المادة بالتعاون والشراكة بين مؤسسة شبكة الصحفيات السوريات وحكاية ما انحكت)

بقلم سوسن غنوم (اسم مستعار): صحفية مقيمة في مدينة القامشلي

(القامشلي)، “لا شك بأنني أخاف على نفسي وأطفالي من هذا الوباء، ولكن بسبب وضعي المعيشي الصعب، ولأنني مضطرة أن أؤمن قوت يوم أسرتي، فأنا مجبرة أن أعمل حتى في ظل هذه الظروف، ولأن عمل الأفران لم يشمله الحظر كانت فرصة لي أن أعمل في الفرن”.

هذا ما تقوله الأم، منيرة يوسف البالغة من العمر ٤١ عاما، من مدينة القامشلي السورية، حين سئلت عن سبب عملها رغم الحظر المفروض بسبب كورونا، والذي طال مكان عملها الأول، حيث أجبرتها الحياة على العمل في مطعم “فبعد وفاة زوجي رأيت نفسي مسؤولةً عن أربعة أطفال وأمي المسنة المريضة، وليس لي شهادة أعمل بها، ولم أجد من يساندني في محنتي. علمت حينها أن الحمل لن يكون خفيفاً، ولكنني لم أستسلم يوماً ولم أدع اليأس يعرف طريقه إلى قلبي، فأنا أبذل كل جهدي وأعتمد على ذاتي، كي لا أحتاج أنا وأطفالي وأمي لأحد”، كما تقول لحكاية ما انحكت التي اطلعت على تفاصيل كفاح ونضال منيرة مع الحياة وصعوباتها في بلد الحرب منذ أعوام. هذه الحرب التي دمرت الكثير، ومنها إرادات الناس قبل أن تحطم حيواتهم. إلا أن هناك من لم يسمح للحرب، رغم كل شراستها أن تحطم إرادته، منهم منيرة التي واجهت الحرب بإرادة فولاذية قوامها الأمل والعمل.

(منيرة يوسف: سأبقى أعمل بجد ولن أستسلم كما تعلمت بالرغم من كل الصعاب التي تواجهني، وأدعو كافة النساء مثيلاتي أن لا يستسلمن لظروفهن مهما كانت.

منيرة يوسف: سأبقى أعمل بجد ولن أستسلم كما تعلمت بالرغم من كل الصعاب التي تواجهني، وأدعو كافة النساء مثيلاتي أن لا يستسلمن لظروفهن مهما كانت.

 

تسكن منيرة في بيت للآجار مع أمها المسنة وأطفالها الأربعة في حي شعبي بالهلالية في مدينة القامشلي.

توفي زوجها قبل 10 سنوات، تاركاً خلفه صبي وثلاث بنات، حيث يبلغ طفلها البكر 15 سنة، والذي اضطر لترك مقاعد الدراسة في سن صغيرة بسبب أوضاعهم المادية الصعبة، أما الفتيات الثلاث فهن أصغر منه.

بعد وفاة زوجها عملت في الأراضي الزراعية، بأجر يومي محدود، تعيل بها أسرتها. ولكن قبل حوالي سنة اختارت عملا آخر، وجدته أسهل بالنسبة لها، وهو العمل في مطعم “الأومري” بمدينة القامشلي بمبلغ قدره ثلاثة آلاف ليرة سورية، بدوام تصفه “بالطويل” من السابعة والنصف صباحاً للخامسة وأحياناً السادسة مساءً.

تقوم منيرة أثناء عملها في المطعم بأعمال عدة من تنظيف اللحوم والبقوليات وتتبيلها وكل ما يطلب منها خلال عملها. تقول لنا أنها ليست المرأة الوحيدة في المطعم، بل يعمل معها ثماني نساء أخريات، وتصف معاملة أصحاب المطعم لهن “بالجيدة”. ولكنها تعاني من الدوام الطويل وترك أطفالها بالمنزل، حيث تقول لحكاية ما انحكت: “معاملة أصحاب المطعم لنا جيدة، لكن العمل متعب والدوام طويل، خصوصاً وأنا أترك أطفالي في المنزل، فيبقى فكري مشغولٌ بهم وأخاف عليهم لحين عودتي للمنزل”.

وتردف منيرة بالقول: “أعمل بجد لأؤمن احتياجات أطفالي وأدوية أمي المريضة، وكثيراً ما يعاني أطفالي من قلة الطعام والثياب، وحالياً بالتزامن مع قدوم عيد الفطر لديهم متطلبات كسائر الأطفال، والتي أؤمنها لهم حسب إمكاناتي، ولكن معاناتي الكبيرة هي من أدوية أمي الكثيرة، والتي يجب توفيرها على الدوام، فتوفيري لأدويتها أهم بالنسبة لي من طعامنا ولباسنا”.

لا استسلام أمام كورنا

حظر التجول في شمال وشرق سوريا الذي بدأ منذ 23 من شهر آذار المنصرم أثر سلباً على معيشة منيرة كحال الكثيرين من الذين يعملون بأجور يومية. وبهذا الصدد أشارت منيرة: “حظر التجول أثر علي كثيراً، فأنا أعمل في المطعم بأجر يومي ولا دخل لي غيره، وحين توقف عمل المطعم احترت من أين أؤمن قوت يومي؟”.

لكنها تستدرك متابعةً بوجهها المبتسم وملامحها الهادئة: “لكنني لم أعرف الاستسلام”، لذا بدأت تعمل في فرن للخبز، وبالرغم من أجره القليل الذي يبلغ ألفي ليرة سورية فقط، وبعده عن بيتها، حيث تضطر للذهاب إلى العمل مشياً لأكثر من ساعة، ولكنها بإرادة قوية وعزيمة صلبة تردد: “من الجيد إني وجدت عملاً أعيل به أسرتي أثناء هذا الحظر”، وتتمنى أن ينتهي الحظر في شمال وشرق سوريا قريباً لتعود إلى عملها في المطعم الذي تجده بالرغم من تعبه أفضل من عملها بالفرن، مؤكدة بذات الوقت أنها تعمل ما بوسعها لتفادي إصابتها بهذا الوباء، وذلك بالالتزام بالنظافة الشخصية وترك مسافة بينها وبين الآخرين قدر الإمكان، وتضيف: “عم نعمل إلي علينا والأمان بالله.. فجل ما أريده وأسعى إليه هو عمل ثابت أتقاضى أجره بشكل شهري ليكون دخل ثابت لي ولأسرتي لكي لا نحتاج أحداً”.

أما أم منيرة يوسف، والمعروفة في الحي التي تسكن فيه بـ “أم ذكي” البالغة من العمر 65 سنة، والتي تسكن عند ابنتها منيرة، فهي تعاني العديد من الأمراض المزمنة، منها السكر وأمراض في القلب وغيرها.
نقول أم ذكي لحكاية ما انحكت بأن زوجها توفي منذ أكثر من 15عاماً، وكان لديها ابن وحيد يعيلها، و”لكنه اختفى منذ بداية الحرب السورية في ظروف غامضة” ولا يعلمون عنه شئياً حتى الآن.

والدة منيرة يوسف الملقبة بأم زكي في منرلهم في حي الهلالية في مدينة القامشلي

والدة منيرة يوسف الملقبة بأم زكي في منرلهم في حي الهلالية في مدينة القامشلي

وتشير أم ذكي: “ابنتي منيرة هي التي تعيلني، وتؤمن أدويتي وتعتني بي بالرغم من وضعها الصعب ووجود أربعة أطفال تعيلهم”. فهي بالرغم من كل مصابها إلا أنها تستمد قوتها من ابنتها وأطفالها وتعتبرهم أملها ومصدر طاقتها وسعادتها في الحياة، وفق ما تقول لنا.

بالرغم من سن العديد من القوانين الدولية التي تؤكد على ضرورة حماية النساء من خلال مساعدتهن لتحسين حياتهن نحو الأفضل، مثل القانون الذي صدر عن مجلس الأمن حول حماية المرأة في مناطق النزاع، في 31 تشرين الأول من عام 2000، والذي يعرف بقانون “1325”، ومن أهم البنود التي يرتكز عليه بند “الحماية”، حيث يدعو لتحسين أمن الفتيات والنساء وتحسين صحتهن الجسدية والعقلية وأمنهن الاقتصادي وحياتهن بشكلٍ عام.

إلا أنه، وحتى الآن، نجد الكثير من القصص التي تشابه قصة الأم منيرة التي تكد وتعمل بإرادة قوية، ولكن لا تجد هذه القوانين تطبيقاً في مناطقنا لتدعم النساء من خلال تأمين فرص مناسبة من حيث أوقات الدوام، وكذلك بأجر يتناسب مع دخلهن اليومي لتعيش حياة كريمة، حيث أن ألفين وثلاثة آلاف ليرة سورية يومياً قليلة جداً بالنسبة للغلاء المعيشي وارتفاع سعر كافة السلع في الوقت الراهن، لتبقى هذه القوانين مجرد سطور لا فائدة منها ما لم تطبق على أرض الواقع.

وحول مساندة الجهات المعنية في شمال وشرق سوريا لحالات مثل حالة المواطنة منيرة يوسف، وما إذا كن يحصلن على الدعم والرعاية من المعنيين. تحدثت حكاية ما انحكت إلى نائبة هيئة المرأة في إقليم الجزيرة، دريا رمضان، حول هذا الموضوع بالقول: “نحاول قدر الإمكان توفير فرص عمل للنساء الأرامل واللواتي لهن ظروف خاصة، من خلال تقديم العون لبعضهن، وبالأخص ممن يعانين من أمراض مزمنة، ومن لا يعملن، حيث قمنا بتأمين فرص عمل للكثير من النسوة في المؤسسات والهيئات التابعة للإدارة الذاتية الديمقراطية بحسب وجود شواغر. وفي الوقت الحالي نعمل على فتح مشروعين قريباً هما فرن خاص بالنساء، وآخر مشغل للخياطة لنستطيع من خلاهما تأمين فرص عمل لأكبر عدد من النساء اللواتي يعشن ظروف صعبة وخاصة”.

وفي السياق ذاته، أشار الرئيس المشترك لهيئة الشؤون الاجتماعية والعمل في إقليم الجزيرة، حسين العلي، بالقول لحكاية ما انحكت: “نحن كهيئة الشؤون الاجتماعية والعمل نسعى لتقديم دعم مجتمعي لكل حالة إنسانية بحاجة لمساعدة، من خلال تسجيل هذه الحالات لدينا، حيث نساعدهم قدر الإمكانات المتاحة، وكذلك نعمل على توفير فرص عمل لهم من خلال الشواغر الموجودة ضمن المؤسسات ومراكز الإدارة الذاتية، وفي الوقت الحالي نقوم بتوزيع مساعدات “سلل غذائية” وبالأخص للعوائل المحتاجة عن طريق كومينات الأحياء”.

وأكد العلي في ختام حديثه لنا، بأنه بالنسبة لمشاريع أو دعم خاص بحالات النساء اللواتي فقدن معيلهن، أو اللواتي يحتجن لمساعدة فهم ليس لديهم أي دعم أو ميزانية مخصصة لهن، بل يساعدونهن حسب الإمكانات المتوفرة لديهم.
وتختتم الأم منيرة يوسف حديثها قائلةً: “سأبقى أعمل بجد ولن أستسلم كما تعلمت بالرغم من كل الصعاب التي تواجهني، وأدعو كافة النساء مثيلاتي أن لا يستسلمن لظروفهن مهما كانت، وأدعوهن أن يوحدن صوتهن لنحصل على كافة حقوقنا في المجتمع، لعلنا نجد يوماً آذاناً صاغية”.