سلوى زكزك
تخوض النساء نضالات مستمرة في سبيل الاعتراف بحقوقهن، لكنهن يتعرضن وباستمرار إلى انتهاكات تمسّ إنسانيتهن مثل النزوح والتهجير والاسترقاق والاعتقال والسبي والعنف الجنسي الممارس بشكل فردي وجماعي.
يشمل العنف السياسي في حالات النزاع المسلح تجييش النساء واحتجازهن واستخدام أجسادهن كأدوات حرب عبر ممارسة الاغتصاب الممنهج وإخفاء المعلومات عن أماكن تواجدهن وعدم توفير الرعاية والحماية الخاصة بهن أثناء فترة الاحتجاز أو بعد انتهاء الاحتجاز؛ حيث تخرج المعتقلة لتواجه القتل في بعض المرات والتجاهل في مراتٍ أكثر وإعادة الاحتجاز ضمن بيوت العائلة مرات أخرى.
تعدّ فكرة التهديد بالاحتجاز أو بالاعتقال الذي يستهدف المرأة لمجرد أنها زوجة أحد المطلوبين، أو من أفراد عائلته، أو أنها من مدينة أو حيز جغرافي محدد، دليلاً بحد ذاتها على وجود عنفٍ متأصلٍ في بنية الموقف السياسي والثقافي نحو النساء. فجسد المرأة يعد ضريبة يجب على العائلة دفعها في حالات الخلاف السياسي والاقتتال، فجسدها ليس ملكها وحدها بل هو ملك العائلة أيضاً ورمز شرفها في الثقافة المهيمنة في المجتمع السوري.
تسارع الأمهات بإعلان سلامة شرف بناتهن الخارجات تواً من الاعتقال، ولا تعبرن عن فرحهن بسلامة البنات، ولا تسردن حكايات الاحتجاز والمصاعب اليومية التي واجهنهن. كل ما يهم أمهات المعتقلات هو الإعلان، ودونما سؤال، عن سلامة شرف المعتقلة سابقاً. فالسؤال عادةً عن هذا الموضوع مُحرج اجتماعياً، لذا يُستشف من وراء العبارات وتدور الألسن حوله شبه جازمة في الأوساط المقربة، لكنها تنتهج الصمت في بيت الضحية، تحت ذريعة عدم جرح المشاعر الأسرية أو مداراةً وتعاطفاً مع واقعٍ مؤلمٍ آلت إليه حياة المعتقلة.
بات من الضروري بمكان وخاصة في مضامين برامج دعم النساء المعنفات (مهما كان شكل العنف الواقع عليهن) ضرورة إنشاء مراكز لحماية ضحايا العنف في جميع المناطق تلبيةً لاحتياجات النساء واستجابةً للآثار الخطيرة التي خلفها النزاع. يمكن تحديد مهام هذه المراكز المتخصصة بتقديم المساندة خلال فترة التوقيف وبعده على الشكل التالي:
ـتقديم الدعم النفسي والصحي والاجتماعي.
ـتقديم الاستشارة القانونية المجانية.
ـالاستفادة من المعونة القضائية.
ـالتمكين الاقتصادي والمساعدة على إيجاد عمل مناسب وكاف لسد الاحتياجات الأساسية.
ـتوجيه المعتقلة أو الناجية من الاعتقال إلى الخدمات الملائمة لخصوصية ظروفها.
ـإيجاد سكن آمن، وقد يتطلب ذلك إيجاد مكانٍ بعيد عن العائلة ذاتها في حال شكلت تهديداً لحياة المعتقلة سابقاً.
اختارت الحركة النسوية تعبيراً جديداً وهو “الناجيات” بدلاً من “ضحايا”، وهو يُطلق على الخارجات تواً من الاعتقال أو غيره من تجارب العنف الممنهج أو العنف المبني على أساس النوع الاجتماعي، أي العنف المجندر استناداً إلى التحليل الجندري المرتكز على قاعدة تحليلية تميز بين أي فعل عنيف قد يقع على النساء والرجال معاً، لكنه يكتسب بعداً تمييزياً أكثر أذى وأخطر فقط لأن موضوع العنف هو امرأة وليس رجلاً. وتكون عواقب العنف المجندر القانونية والاجتماعية والاقتصادية أشد بؤساً وإغراقاً في تمييزه السلبي الذي يتكرس كسلوك طبيعي وغير قابل للنقض أو النقد أو حتى مجرد التشكيك.
إنّ عدم وجود مراكز رعائية خاصة بالناجيات من تجربة الاعتقال أو الاحتجاز أو السبي أو الاغتصاب الممنهج يفرض على النساء المعنفات الارتهان لإرادة رجال العائلة وقرار العائلة التي قد تلجأ إلى قتل الناجية أو حجزها أو إجبارها على التكتم على ما تعرضت له من انتهاك، فيضيع حقها الشخصي وحقوق المجتمع ويبقى المعتدي مطلق اليد وجاهزاً لتكرار تعنيفه مرات ومرات دونما حساب أو عقاب. وفي بعض الأحيان قد تضطر الناجية للهرب فوراً نحو وجهة مجهولة وغير آمنة، تضع حياة المرأة ومستقبلها وأمانها الشخصي رهناً بيد من قد يسيء إليها، أو قد تضطر في بعض الحالات للقبول بشروط حياة جديدة مفقرة وقاسية تدفعها للجوء إلى بيع جسدها والمتاجرة به؛ فتتضاعف الآثار السلبية الناجمة عن غياب أي خطوة رعائية وانعدام الأمن والدعم النفسي والاجتماعي والمادي مما قد يدفع بالناجية للانتحار أو الزواج من رجلٍ طاعنٍ في السن أو أن ترضى أن تكون زوجة ثانية أو ثالثة.
تعدّ الأفعال العنيفة أثناء النزاع المسلح ظرفاً مشدداً تنوء النساء تحت ثقله وشدة أذيته، وخاصة ما قد ينجم عن الاحتجاز أو الاسترقاق مثل الحمل القسري وما قد يليه من إجهاض قسري قد يعرض حياة المرأة المعنفة للخطر الفادح. كما أن التعذيب الجسدي والمعنوي واللفظي الموجه للنساء على أساس الطائفة أو المذهب أو العرق أو اللون أو مكان المولد أو السكن أو الطبقة، له آثار نفسية عميقة قد لا يمحوها الزمن بالتقادم، الأمر الذي يؤكد ضرورة وجود هذه المراكز الرعائية. وحتى في الحالات التي قد تستوعب فيها العائلات وتتقبل عودة النساء المعنفات إلى حماها، إلا أنها عاجزة عن القيام بكل الخطوات المطلوبة نفسياً وصحياً وقانونياً لإعادة تأهيل النساء المحتاجات لبرامج مدروسة ولخطط ومشرفين متخصصين يراعون كل ما هو كفيل بتأمين عبور بالنساء نحو ضفة السلامة النفسية والعقلية والجسدية.
ولابد من الإشارة إلى ظاهرة النزوح الاضطراري التي تجبر المرأة على ترك ديارها وخسارتها لممتلكاتها، أو هروبها الطوعي تحت سطوة الخوف والرعب والفزع الأمر الذي يدفعها للجوء إلى أمكنة أخرى لا تملك فيها شيئاً ويغمرها العجز والضياع.
كان من الواجب إقامة مثل هذه المراكز منذ بداية النزاع بالإضافة إلى إطلاق حملاتٍ توعوية خاصة موجهة للمجتمع عموماً والأهل خصوصاً. فالانتهاك الصادر ضد المرأة هو عملية عقابية ممنهجة ويشوبها الكثير من التمييز العميق والمقصود، ولا تتحمل مسؤوليته، ويجب على المجتمع والأهل والدولة ومنظمات المجتمع المدني والأهلي الوقوف ومساندة الناجين/ات والمعنفين/ات وضمان عبورهن نحو ضفة الأمان والعيش الإنساني الكريم والمتساوي، وضرورة منح النساء كل مقومات إعادة تصالحهن مع المجتمع واندماجهن به بتشاركية متساوية ومسؤولة وفعالة.