هذا ما فعله كورنا… من ملكة الحجر إلى مسنة باهتة الملامح

“أدركت منذ فجر اليوم الأول أنني محتجزٌ في قصر وسط غابة يحيط بها الغموض من كل جانب. قال لي إن وباءً قاتلاً، لعله الطاعون، قد تفشى في الخارج …”
قبل نهاية الحياة بشكلها الذي عرفناه دائماً، كنت أقرأ كتاباً ساحراً للكاتب الكردي بختيار علي يبدأ بهذه الجملة التي بدأت بها المقال، وأنا التي لم أختبر أزمات ترغمني على ملازمة المنزل (بل على العكس استدعت الأزمات التي اختبرتها، والتي كانت تغيّر خرائطنا على البقاء، مستعدة دائما الخروج من المنزل)، أُبقيت مرغمة في المنزل بمنأى عن الطاعون كبطل رواية بختيار.

(تنشر هذه المادة بالتعاون والشراكة بين مؤسسة شبكة الصحفيات السوريات وحكاية ما انحكت)

شهادة سيماف حسن
صحفية كردية سورية

لم يكن العمل من المنزل أمراً غريباً بالنسبة إليّ، إذ منذ أربعة أعوام حين عرفت أن الاختلاط مع زملاء العمل ليس الخيار الأفضل بالنسبة إلي، حاولت أن أركز غالباً على فرص العمل التي تتيح لي البقاء بالـ”بيجاما” طوال اليوم، لكن بقائي مع أهلي الذين اعتادوا الخروج للعمل، جعل الأمر أشبه بالنسبة إلي بالبقاء في سيارة صغيرة متوقفة وسط طريق معتمة دون وجهة محددة.

ملكة الحجر

التحفيز الذي ترافق مع الأيام الأولى للبقاء في المنزل جعلني أستنفذ ربما الطاقة المخصصة لشهر، قد لا يبدو الأمر منطقياً من الناحيتين الصحية والنفسية، إلا أن مرور أول أسبوعين من الحجر جعلني أثق بهذا الأمر.
بدأت أطبخ كميات هائلة من أطعمة أجربها للمرة الأولى، أصوّر كل الطيور التي تتيح لي الشرفة رؤيتها، أخلط كل الزيوت الموجودة، وأضيف إليها حبوباً مطحونة من كل الأنواع لأصنع منها “ماسكات” لبشرتي، أتربص بكل شعرة زائدة على وجهي، أزيلها فور ظهورها، أحوّل المطبخ إلى غرفة عمل بدوام مزدوج، لأطبخ فيه ظهراً، حين أستيقظ، وأستبدل لوح التقطيع بلابتوبي على طاولة المطبخ مساءاً.

نشاط هائل ترافق مع الأيام الأولى للبقاء في المنزل، لدرجة أنني شعرت بنفسي أعيش مرحلتي الذهبية، أوزع ابتسامة بلهاء على كل نباتاتي عندما أسقيها، أكثف من مكالمات الفيديو مع أصدقاء لم أسأل عنهم منذ سنوات، أضحك بسبب أزمة ورق التواليت في أوروبا وأتبادل الميمات المضحكة حول الفيروس المرعب مع مجموعة أصدقائي على الواتس آب، أنتهي من الجزء الجديد من مسلسلي المفضل في يوم واحد، وكأني أنتهز فرصة المتعة التي لا تؤجل، ولا ألحظ سرعة مرور الأيام لتصبح كلها مجرد أيام.
بعد أسبوعي النشاط هذين، اكتشفت قدرتي الجديدة على الجلوس بدون تشتيت من الهاتف والعمل لفترة أطول مما كنت أتوقع. علاوة على ذلك أستطيع التفكير بأمور تأخذني في رحلات بعيدة دون أن أغادر الكرسي، أفكر كثيراً وأسرح بما مضى دون أن أضع أدنى اعتبار لما قد يأتي غداً. بعبارة أخرى اختبرت حالة المرأة العجوز التي من المفترض أن أكونها يوماً ما في المستقبل البعيد.

بعد موجة النشاط تلك، أصبحت أراقب الحي من شرفة المنزل، أسكن في حي أعتبره أغرب الأحياء في العالم، يشتهر حيّنا بكلابه التي تنبح طول اليوم، ومنذ فترة أصبح حماران أبيضان يتجولان ليل نهار من شارع لآخر حديث الحي، تشبهنا الأحياء التي نسكنها
ونشبه منازلنا.

مشتقات الذاكرة

اعتقدت في الأيام الأولى للحجر المنزلي إنني أخيراً حظيت بالفرصة التي أنتظرها لأكمل الكتب التي لم أتمكن من إكمال قراءتها، إلا أنّ أكوام الذاكرة المؤرشفة التي لم يسعفني الوقت لترتيبها مؤخراً طفت على السطح من جديد، ولأن ذاكرتي باتت تحوي فجوات مؤخراً، قررت ترميمها عبر العودة لمحادثاتي النصية ومستنداتي المبعثرة، لأستنتج أن ذاكرتي الهشة قد تختفي عند أول عطسة لفايروس.

مع مرور أيام على الالتزام بالحجر، تحولت إلى قنبلة موقوتة، أتفاعل بعنف على كل المنشورات غير المتناسبة مع أفكاري وأغضب من الاستهزاء المترافق بمنشورات تتنمر على النساء وتسخر من أعمالهن المنزلية، أشكك في نوايا الرجال الذين يتفاخرون بفرصة الحظر للبدء بأعمال منزلية، وكأن العمل المنزلي كان سابقاً رفاهية لزوجاتهم وأمهاتهم.
أقتنع الآن وأنا أستعيد شريط الشهر الذي بقيت فيه بالمنزل أنّ شهراً واحداً كان كفيلاً بإظهار أفضل وأبشع ما لدي، كان شهراً متطرفاً في فرض مزاجيته علينا، تارة أضع برنامجاً ليومي وأطمئن حين أنفذ مهامي، وتارة أدفع بفوضاي نحو أقصى درجات المبالغة. وبالحديث عن المبالغة، جعل هذا الشهر تهمة الـ”دراما كوين” تهمة غير ذات طابع تحيزي بالنسبة إلي، فأصبحت أقول “فخورة بالدراما تبعي”.

يبرر صديقي حالة الدراما لدي، وهو العابس الذي يتهمني بالحزن دائماً، بقوله أنّ الشوارع الخاوية تذكره بانتظار الناس لموتها، أسخر من حديثه “ما الجديد؟” فنحن نختبر كل أشكال الموت منذ سنين ونرى مدننا مهجورة وبدون ملامح أيضاً منذ سنين، وأفكر “يااه… بدأت أطوّر طابع السخرية الحزين لدي!”.

التفنن في مشاركة العزلة

كان شهراً تكدست فيه كل الحقائق ومشتقات الذاكرة، شهراً وزعت فيه القلوب الحمراء مرة بسخاء على منشورات أصدقائي، ومرة باحتساب واتزان الراهب، لأن المشاعر عبء، وعلى من يريد الحفاظ على عزلته التفنن في مشاركتها.
يتوه بطل بختيار علي في المحيط بعد أن كان تائهاً واحداً وعشرين عاماً في الصحراء، أفكر بالصدفة التي جمعتني بهذا الكتاب قبل الحجر المنزلي! رواية كُتبت بواقعية سحرية تتناول الوباء بهامشية، تماماً مثل التغيرات التي حصلت في العالم بسبب وباء أصبح ذكره هامشياً في تفاصيل أيامنا. ولأنني شرقية بالفطرة، أحمل علامات تعجبي نحو المجهول الذي أتوه بسبب مزاجية خططه، من حروب ومفخخات وأوبئة وخسارات متتالية، تلك المزاجية التي تحبط خططي، واحدة تلو الأخرى.