أبواب مواربة
فرح يوسف
بعد ستة أعوام مما يسمى أزمة الهجرة الأوروبية بدأ سؤال المشاركة السياسية لمجتمع اللجوء يأخذ حيزاً في الفضاء العام الأكاديمي والإداري في فرنسا. مبادرات مجتمع مدني وأخرى حكومية، جهود فردية وجمعية، نجاحات وإخفاقات تدور حول الإيمان بحق وواجب اللاجئات واللاجئين بالمساهمة في صنع القرارات التي تمسهنّ/م بصورة حيوية.
ما أن تحصل اللاجئة على قرار اللجوء تسقط تلقائياً حقوقها في المشاركة السياسية الرسمية؛ لا انتخاب ولا ترشح في البلد الأصلي، فلا يحق للاجئة مثلاً المشاركة في الانتخابات في سفارة النظام السوري في باريس، وكذلك الأمر في البلد المضيف قبل الحصول على جنسيته. تنسدّ أبواب المشاركة الرسمية لكنّ أبواب المشاركة غير الرسمية تبقى مفتوحة، أو مواربة لنكون أكثر تحديداً.
نستعرض هنا سياق وتجارب نساء مؤمنات بالمشاركة السياسية، كنّ فاعلات بدرجات متفاوتة في سوريا قبل أن تصبحن لاجئات، وما زلن راغبات بلعب دور على الساحة السياسية السورية من جهة، والفرنسية من الجهة الأخرى. ونحاول رصد بعض العوائق التي تقف بين اللاجئة السورية وصوتها على المستوى الفرنسي.
في لحظة فقدان معنى ما يطرح السؤال نفسه: هل تبدو المشاركة في فضاء لا تتحدث لغته مجازاً وواقعاً أمراً واقعياً؟ لو استثنينا تظاهرة تناهض تعديل قوانين الهجرة واللجوء، ومسيراً يدعو لاحترام حقوق طالبي/ات اللجوء، ما نوع المطالب التي تجدن أنفسهن معنيات بها ومنتميات لها؟
تقف المواطِنة الفرنسية تحت مظلة الشأن العام لبلادها، تختار ما يمسّها ويعنيها من القضايا التي ستنشط لأجلها، ويمكن أن يمتدّ نشاطها طوعياً ليشمل الاهتمام بقضايا دولية أو قضايا محلية في بلاد لا تنتمي لها ولا تؤثر مباشرة في حياتها. الأمر مختلف بالنسبة للاجئة السورية، تحمل بيد مظلة الشأن السوري الذي يؤثر فيها حيوياً، وقد تكون اختارت النشاط فيه بصورة طوعية، وفي اليد الأخرى أُقحمت مظلة شؤون اللجوء والاندماج التي تدخل في تفاصيل حياتها اليومية، ويحيط بها الشأن العام الفرنسي كمظلة هائلة غامضة لا يد لها فيها وقد تريد أن يكون لها يد فيها.
تظهر هنا الحاجة لتنظيم الطاقة والوقت والاهتمام. يحدث أن يفرض المنفى نفسه على المنفيّة، يصبح إيجاد ترتيب عملي للأولويات ضرورة، وقياس مقدار الهٌنا وحجم الهناك في تكوينها السياسي وإعادة النظر بموقع السياسة في حياتها، وقنوات المشاركة التي ترغب باستخدامها يغدو حيوياً مع تحوّل المنفى من طارئ إلى حياة جديدة.
اللغة: أولى الأبواب الموصدة
لعلّ الخطوة الأولى لفهم المحيط والتفاعل معه هو اللغة. رغم كونها بلد هجرة ولجوء، ورغم الجدل الدائم حول أهمية تحسين برامج المرافقة والجهود المرافقة لهذا الجدل، إلا أن سياسات الاندماج في فرنسا تبقى عاجزة عن توفير تعليم لغوي مكثف وفعّال يمكّن مجتمع اللجوء من العمل والاندماج. تقارير عديدة تصدر سنوياً لتفكيك مشاكل الدروس المقدّمة من المكتب الفرنسي للهجرة واللجوء (الأوفي)، حيث توفّر تعليماً يهدف للوصول إلى مستوى A1، وهو ما يسمح “بالنجاة” على أبعد تقدير ولا يقترب من المستوى الحيوي للاندماج في المجتمع الفرنسي، بالإضافة إلى حرمان طالبات وطالبي اللجوء من أي تعليم لغوي رسمي في الفترة بين طلب اللجوء وقرار القبول التي قد تمتد لعدة أعوام. ولا تراعي هذه التدريبات التنوع الكبير في مجتمع اللجوء على الصعيد الأكاديمي والمهني والعمري.
تتقاسم البرامج الحكومية العبء مع منظمات المجتمع المدني إلا أنّها تبقى قاصرة أمام الاحتياجات، ولا تتوزع بصورة متوازنة بين المدن الصغيرة ومراكز المدن والعاصمة. تواجه اللاجئات تحدياً مضاعفاً، فالبرامج لا تُصمم دائماً بما يتناسب مع احتياجات المرأة وتحديات الوصول للنساء، فالبرامج الموجهة خصيصاً للنساء قليلة وحلول حضانة الأطفال لا تكفي للجميع، وبصورة خاصة الأمهات والأمهات العازبات.
نجوى ج. لاجئة سورية وصلت إلى فرنسا منذ خمسة أعوام، غادرت دمشق بعد تجنيد ابنها القاصر قسرياً في الجيش السوري وفشل محاولاتها في العثور عليه. نجوى النسوية منذ مراهقتها، كانت تؤمن بأهمية المشاركة السياسية حتى أنها رغبت بالترشح لمجلس الشعب في عمر الرابعة والعشرين وتمّ رفض طلبها لعدم تحقيق شرط السن القانوني. عملت نجوى لاحقاً في مؤسسة قطاع حكومي، ومعايشتها للفساد والتكتلات والمافيات حسب تعبيرها أفقدها الرغبة في أخذ مكان في هذا المشهد. استمرت بما أسمته نشاطاً اجتماعياً على مستوى ضيق، منتديات للحديث عن حقوق النساء وتعديل الدستور، ومع بدء الثورة حاولت تشجيع زملائها وزميلاتها في العمل على الاعتصام لكنهم/ن رفضوا/ن خوفاً.
حصلت نجوى ج. على قرار اللجوء في ستة أشهر، تعتبر نفسها محظوظة لأن أفراداً من عائلتها ساعدوها في المعاملات الإدارية، بينما احتاجت سبعة أشهر لتجد دروساً للغة الفرنسية، ثلاثة أيام فقط في الأسبوع في جمعية وجهد فردي في المنزل.
“قررت أن أصرخ وأن تكون صرختي صرخة كل النساء غير القادرات على أن يتكلمن. أردت أن أتحدث عن ابني الذي اختطفه النظام، أقلّ شيء أن أتحدث عنه” كان هذا دافع نجوى الرئيسي في فرنسا للخروج عن صمتها الذي فرضه ضعف لغتها الفرنسية وحالتها النفسية كأم لا تعرف ما إذا كان ابنها ما يزال حياً، “انعزلت، كنت متعبة نفسياً ولغتي لم تساعدني على التواصل، طريقة تعليم اللغة هنا تحتاج لتجديد خصوصاً للمشرقيين/ات الذين/اللواتي لم يتحدثوا/ن اللغة الفرنسية في السابق، ودروس اللغة ليست فقط غير إلزامية إنما صعبة الإيجاد كذلك، وكنت في مدينة بعيدة في ضواحي باريس والمواصلات كانت صعبة جداً. كنت أتابع الأخبار، كلّ الأخبار كانت تهمني، لكن الترجمة كانت ترهقني.”
بقيت مشاركة نجوى مقتصرة على القضية السورية، وفي نطاق تجمعات سورية مجبرةّ إلا أنها تعتبرها الخطوة الأولى فقط وتعتبر تغلّبها على التحديات شكلاً من أشكال الامتنان لفرنسا التي “حمتها وحمت ابنها الكبير”، حيث ترى في المشاركة السياسية للنساء فائدة للمجتمع ككل، “رفع الوعي السياسي عند النساء وتوعيتهنّ بحقوقهنّ وواجباتهنّ أمر رئيسي لتقدم الدولة” تؤكد نجوى ج.
أما وجدان ناصيف، ناشطة سياسية نسوية ومعتقلة سابقة، حصلت على اللجوء في فرنسا عام 2014 وبعد مسيرة سياسية حافلة في سوريا تتابع نشاطها منذ وصولها بأشكال متعددة ولخدمة قضايا مختلفة. تتفق وجدان على قصور برامج التعليم اللغوي للاجئات، “اللغة هي حجر الأساس والأداة الأهم للمشاركة”، يؤكد تقرير أعدته منظمة “فرنسا أرض اللجوء” “ثبت أن إتقان اللغة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمجالات الاندماج الأخرى (التوظيف والإسكان والمواطنة…)، مما يؤكد بدوره على الحاجة إلى تطوير نهج شامل للسياسات التي تهدف إلى اندماج اللاجئين/ات”. إلا أن اللغة الإنكليزية مكنتها من التواصل في الفترة الأولى، وساعدتها طبيعتها الاجتماعية وإصرارها على تعلم اللغة الفرنسية واستئناف نشاطها السياسي والاجتماعي.
تتعثر إذاً الخطوة الأولى في مسار الاندماج، ويترتب على هذا التعثر تأخر في المحطات التالية، ولعلّ أبرز انعكاسات هذا التعثر تبدو في سوق العمل، حيث تقول الإحصائيات أن نسبة التوظيف لدى اللاجئات أقل منها لدى اللاجئين. أما بالنسبة لنوعية العمل فالتباين أوضح بين الجنسين حيث أن النسبة الأكبر من النساء تضطر لشغل مناصب أخفض من مواقع عملهنّ في بلادهن الأصلية أو مؤهلاتهنّ مقارنة بالرجال.
“وضعنا الاقتصادي سيء، وصلت إلى فرنسا عمري 50 سنة، في سوريا كنت قريبة من سن التقاعد وهنا أبدأ من الصفر، كيف يمكن أن نؤسس لمشاركة فاعلة إن لم نكن قويات وقادرات على الحياة بشكل كريم وطبيعي؟ كيف أشارك؟” بهذه التساؤلات تشرح نجوى ج. انعكاس هذا الواقع على قدرتها على المشاركة السياسية. وحتى لو نجحت اللاجئة في الاندماج بتجاوز عائق اللغة، تصطدم بحواجز عديدة، لعل أبرزها: القانون واختلاف بنية المشهد السياسي عما هو عليه في سوريا.
التحديات القانونية واختلاف المشهد السياسي
لا تملك اللاجئات كما أسلفنا حق الانتخاب والترشح في فرنسا قبل الحصول على الجنسية الفرنسية. يُضاف إلى ذلك ضعف التعليم الحقوقي/السياسي الرسمي في فرنسا. يمرّ هذا التعليم عبر التدريب المدني، أيام أو دورة الاندماج كما يتعارف السوريات والسوريون على تسميتها؛ على مدار يومين تم تمديدها عام 2019 لأربعة أيام، وباللغة الفرنسية، تُعرض على اللاجئات واللاجئين القيم الأساسية وتاريخ وجغرافيا فرنسا، الصحة، العمل، وأضيفت ثيمة حقوق الأطفال والحياة المدرسية، وأخيراً السكن في فرنسا.
هذا التدريب المختصر من جهة لا يطرح مسارات لممارسة الحقوق المدنية في غياب حق التصويت والانتخاب، ومن جهة أخرى لا يشتمل بصورة كافية على محاور تتعلق بحقوق النساء، غير أنه لا يتمّ ضمن بيئة آمنة تمكّن اللاجئة من السؤال والتعمّق في حقوقها وأدوات تمكينها القانوني والاجتماعي والسياسي.
هناك، في بلادنا، وعلى مدار عقود حكم البعث حرص الأسدان على تجفيف قنوات المشاركة السياسية، وخنق أي فضاءات للتأثير في الشأن العام، مع اندلاع الثورة السورية كنا نستكشف أدواتنا، نبتدع تنسيقيات وآليات تنظيمية، كانت الثورة مختبراً هائلاً للتجريب، ننجح فيه أحياناً وتنفجر الأمور في وجهنا في أحيان أخرى.
أما في فرنسا، في نظام حكم نصف رئاسي، لا يمكن إغفال دور طيف الأحزاب الواسع، وأهمية التجربة الحزبية في صناعة السياسيين/ات والتأثير في السياسات العامة المتحكمة بكل مفاصل البلاد. هذا المناخ السياسي لا يشبه في شيء تجربة العيش تحت حكم الحزب الواحد.
على اللاجئات إذاً التعرف على فكرة الحزب الفاعل، وتوزّع الأحزاب على الخارطة السياسية، والعلاقة بينها، وعلاقتها مع الأنظمة الشمولية، وموقفها من قضايا الهجرة واللجوء، ثم إيجاد الطرق الأنسب للانخراط في الحزب الملائم إن كنّ مؤمنات بالعمل الحزبي، أو حتى قراءة البرامج الانتخابية لاختيار المرشحين/ات في الانتخابات.
ولا تلغي صناديق الاقتراع ولع الفرنسيين/ات بامتلاك الشوارع، إذ لا يبدون/ين جاهزين/ات للتخلي عن سلطة الإضرابات والمظاهرات والمسيرات أو تحجيم دورها في التأثير على السياسات العامة، وتحتلّ التنظيمات النقابية والطلابية موقعاً مركزياً في مُعاشهم/ن السياسيّ. يبدو هذا منسجماً مع الطريقة التي عبّر بها السوريون/ات في سوريا، الصراخ عالياً في الشوارع والمطالبة بالحقوق بكل ما يترافق مع ذلك من مخاطر. لكن للمظاهرة في فرنسا معنى مختلف، وللتعاطي مع العنف وسائل أخرى، والمسألة تذهب لأبعد من الإيمان بالأناركية فوق كل أرض وتحت كل سماء، وخبراتنا الثمينة لا تكفي لنكون فاعلات/ين ومؤثرات/رين بالقدر الذي نتأثر به.
في سوريا كانت نجوى ج. عازفة عمداً عن المشاركة السياسية الرسمية، “أتمنى أن أنتخب في فرنسا، لم أشارك في سوريا ولا مرة، لأنها كانت انتخابات شكلية. لكنني أنتظر الجنسية هنا لأنتخب. مع الجنسية أنا مواطنة”. يضيء صوت نجوى بينما تقول “مواطنة”، إلا أنها لا تغفل عن صعوبات استكشاف البرامج السياسية للمرشحين/ات، لصعوبات اللغة بالدرجة الأولى، واختلاف المشهد السياسي عنه في بلادنا.
بالنسبة لوجدان ناصيف حق الانتخاب والتصويت من الأدوات الرئيسية التي تسعى وجدان لامتلاكها كذلك، ولا تجد مانعاً من الانضمام لحزب في فرنسا “على أساس توافق القيم، مناصر للقضايا العادلة العابرة للحدود، ديموقراطي، يحترم النساء بالبداهة، نشيط ويحدث فرق”، إلا أنها لا تعطّل نشاطها بالكامل بانتظار هذه الحقوق.
تلجأ كل من نجوى ووجدان للمجتمع المدني لمواجهة انسداد القنوات الرسمية للمشاركة وممارسة حقهنّ في المشاركة السياسية. تقول نجوى ج. “بحثت على الانترنت عن جمعيات لأنني أردت المشاركة، اخترت جمعية Renaissance لارتباطها بالنساء السوريات، وهناك وضعتني مديرة الجمعية على تواصل مع صحفيين وتحدثت للمرة الأولى عن ابني بعد ست سنوات من اختطافه وتجنيده”. إلى جانب انضمامها لجمعية أنشأت نجوى جمعية “هاني” الهادفة لمكافحة تجنيد الأطفال، ورفع الوعي لدى الأطفال وذويهم.
أما وجدان فنشاطها نشاط مدني سياسي من منظور نسوي كما تعرّفه، تشعر بالانتماء وبالتخفف من أعباء أحكام الآخرين وتعتبر الانفتاح على الآخر ضرورة، “أن نكون عابرات/ين للحدود ولا نغرق في مظلوميتنا ونتجاوز مفردتي الأنا والآخر لنكون قادرات/ين على بناء جسور والتأثير في محيطنا، بالإضافة إلى التحرر من الخوف من المشاركة في الشأن العام”.
يبدأ إذاً مسار المشاركة متعثراً، تفقد اللاجئة صوتها الرسمي، وتخسر صوتها الفعلي لصعوبات تعلم اللغة، بما يترتب على فقد الصوت من عدم القدرة دائماً على متابعة الشأن العام الفرنسي إلا عبر المصادر المترجمة بمختلف توجهاتها، صعوبة في التلقي وصعوبة في التعبير. لكن على الرغم من ذلك بدأت تنفتح شقوق في أجساد صنع القرار والسياسات العامة في فرنسا، ومنها تدخل اللاجئات واللاجئون بخطوات ثابتة وأخرى أقل ثباتاً، على صوتنا أن “يدبّر رأسه” في هذه البلاد، أو على الأقل أن يحاول.
مقعد على الطاولة الرسمية
تكاد تكون تجارب المشاركة السياسية للاجئات على المستوى الرسمي معدومة. ويمكنني سرد تجربتي الشخصية كلاجئة سورية مهتمة بالشأن السياسي. وصلت إلى فرنسا منذ خمسة أعوام، وبدأت بفهم مشهد اللجوء عبر مهام تطوعية في جمعيات تعنى بمرافقة اللاجئين/ات، وعملي على رسالة ماجستير حول الاندماج المهني للاجئين/ات. وبحكم غياب تمثيل مجتمع اللجوء سياسياً، تنامى اهتمامي بالمشاركة في المشهد السياسي الفرنسي.
شكّل إنشاء الهيئة بين الوزارية لاستقبال واندماج اللاجئين عام 2018، التابعة لوزارة الداخلية، نقطة تحوّل بما يتعلق بمشاركة اللاجئين/ات. منذ بداياتها تبنّت المفوضية خطاب “العمل مع اللاجئين/ات” على فهم ثغرات ومشاكل الاندماج في فرنسا على مختلف الأصعدة إدارية أو اجتماعية أو اقتصادية أو تكنولوجية.
بدأنا نلاحظ تغيّراً في الموقف من الاستماع للمعنيين والمعنيات وتضمينهن/م في مختبرات تطوير مسار اللجوء إدارياً وتقنياً واجتماعياً وسياسياً، لكنّ الأصوات السورية كانت تخرج من حناجر اللاجئين، وبقي حضورنا كسوريات خجولاً ومحدوداً بكلّ الأعباء التي تخنق صوت النساء السوريات في المساحات العامة كافة. البرامج إذاً تُرسم بناء على احتياجات المستفيدات والمستفيدين، لكنّ كثيراً من النساء كنّ معزولات تماماً عن المشهد السياسي، المشاركة السياسية هنا كانت تبدو ضرباً من الرفاهية في معترك اللجوء.
تجلّى العمل مع اللاجئين واللاجئات من خلال تأسيس أكاديمية مشاركة اللاجئات واللاجئين، بالشراكة مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين والمعهد الفرنسي للشؤون الدولية، وهي برنامج يمتد على سنتين لتعزيز مشاركة اللاجئات واللاجئين في البرامج والسياسات المتعلقة بهن/م. وتم قبولي مع 12 لاجئة ولاجئاً من جنسيات متعددة، على أساس الناشطية في مجال اللجوء والاندماج مع اشتراط مستوى جيد في اللغة الفرنسية قراءة وكتابة.
كنت ضمن ست نساء بموجب توازن جندري متعمّد. من الممكن أن نقف هنا عند التفاوت الكبير بين أعداد المتقدمين والمتقدمات، حيث تقدمت 50 لاجئة فقط من إجمالي 235 طلب ترشح، ورغم أن هذا الرقم ليس تمثيلياً إلا أنه أحد مؤشرات واقع مشاركة اللاجئات في فرنسا.
بعد تسعة أشهر من الاجتماعات واللقاءات الدورية مع فاعلات وفاعلين من القطاع الحكومي والمؤسساتي والدولي بهدف تحضيرنا لمشاركة فعالة، أدخل وزارة الداخلية وأجلس على طاولة اللجنة الاستراتيجية لتقييم سياسة الاستقبال والاندماج، اللاجئة الوحيدة مجدداً بين ثلاثة لاجئين، وأتحدث عن تحديات الوصول للرعاية النفسية. وألبّي لاحقاً دعوة للمشاركة في جلسة نقاش مكثفة حول الاندماج المهني للاجئات واللاجئين، وأتحدث بحرية واستفاضة عن جذور مشاكل وصول النساء اللاجئات لسوق العمل، وألتقي نائباً برلمانياً لمناقشة مشاركة اللاجئين/ات.
هذه التجربة كانت من أغنى التجارب السياسية التي عشتها في فرنسا، إلا أنها لم تخل إطلاقاً من الصعوبات، فبالإضافة لتحديات المشاركة كلها فقد تزامنت التجربة مع جائحة كورونا. كنت أصنف من اللاجئات المحظوظات، لديّ وصول للإنترنت، أتحدث الفرنسية، أسكن في غرفة مستقلة وليس سكن جماعي، طالبة في الجامعة على وشك التخرج، لكن هذا لم يمنع الحجر الصحي من ترك آثار نفسية وجسدية ثقيلة عليّ، ولم يمنعني من مواجهة أعباء مادية حادة مع منعنا من مغادرة منازلنا.
بعد عدة أشهر، وعكس الناس الذين أفقدتهم/ن الأزمة الصحية أعمالهم/ن، عملت في وزارة الصحة والتضامن الفرنسية في مركز إدارة الأزمة الذي بات بحاجة لكل الخبرات الممكنة. كنت اللاجئة الوحيدة ولم يصدمني هذا، ولم يكن هناك تنوع لوني كافٍ، ولم يصدمني كذلك، وإن كان عملي إدارياً بحتاً إلا أنني كنت في قلب القرار السياسي، أشاهد عن قرب ويومياً الهرميات والسياقات والآليات التي تُدار بها ليس فقط شؤون الأزمة الصحية، إنما أيضاً كل ما يتعلق بالصحة العامة والتضامن. وفي الوقت الذي كان مجتمع اللجوء يعيش إحدى أعنف أزماته، لم تكن استشارة أفراده مطروحة على مستوى الوزارة. بمحض الصدفة، بيئة عملي أتاحت تعليماً سياسياً غنياً.
وكنت أتنفّس اقتصادياً بالحد المقبول، لم يكن هناك الكثير لننفق عليه حين ننتهي من العمل بعد موعد الحجر الصحي مساءً، كما كنّا نعمل في عطلة نهاية الأسبوع أيضاً، باستثناء الإيجار والفواتير لم يكن هناك ما أنفق عليه، كنت قادرة إذاً على استثمار نفسي في مشروع مشاركة منظم.
هذه الدعوات والمبادرات، على أهميتها، تبقى محدودة ومتركّزة في الهيئة بين الوزارية للاستقبال واللجوء، الهيئة التي قد يلغي وجودها تماماً وصول اليمين إلى الرئاسة الفرنسية، وتبقى كذلك مرهقة مادياً للراغبات بالمشاركة. والأهم أنها ليست تمثيلية لغياب آليات انتخاب لفاعليها وفاعلاتها، كما أنها عاجزة على المدى القصير عن مواجهة القصور المؤسساتي في بناء أساس صحي متين يسمح بمشاركة فعالة للنساء اللاجئات ليس فقط في السياسات التي تؤثر بهنّ، إنما بما يفضي إلى مواطنة حقيقية.
الطريق للمشاركة السياسية للنساء لم يكن يوماً سهلاً، وما زال الطريق طويلاً أمام اللاجئات السوريات في فرنسا لشقّّ قنوات يمرّ عبرها صوتهنّ رغم صعوبات اللغة والتحديات القانونية وهشاشة المبادرات الرسمية وغير الرسمية، لكن هذه الخطوات تسير نحو هدف واحد، بناء مشترك للسياسات العامة، واستعادة النساء لصوتهنّ.