عن الجهد النسوي السوري في العمل السياسي
وديعة فرزلي
ليس من السهل على أغلب النساء السوريات الوصول لأهدافهنّ المهنية في مختلف مجالات العمل، نظراً لأنهنّ يعملنّ في بيئات وأماكن عمل سِمتها الأوضح، أنها بيئات غير داعمة لعمل النساء وتطوير خبراتهنّ المهنية. تزداد الصعوبات المهنية تعقيداً في مجال العمل السياسي الذي لا تتمكن النساء من اختراقه والعمل فيه إلا بعد جهود مضنية ومضاعفة، لاسيما وأن العمل السياسي في السياق السوري يتسم بفجوة جندرية واسعة ويهيمن عليه الرجال، بالإضافة لعدم وجود أنظمة وقوانين تدعم وتحمي مشاركة وتمثيل النساء في مراكز صنع القرار السياسي، وفي تشكيلات سياسية أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها طاردة للنساء. أثناء إعداد هذا التقرير وإجراء المقابلات مع مجموعة من الفاعلات والناشطات، وصفت السياسية أليس مفرج العمل السياسي السوري بالمحرقة، في حين أن المحامية جمانة سيف وصفت التحديات بأنها لم تكن فقط تحديات قاسية بل كانت ظالمة بحق الفاعلات والعاملات في السياسة. وهذا ما يدفعنا للقول، أنه إلى يومنا هذا، ممارسة العمل السياسي من قبل النساء، لا تتحقق إلّا بشق الأنفس، وبعد تقديم تضحيات مستمرة على المستويين الشخصي والمهني.
قبل حوالي ٢٠ سنة، في عام ٢٠٠٠ تم اعتماد القرار رقم ١٣٢٥ حول النساء والسلام والأمن، بالإجماع من قبل مجلس الأمن، وذلك من أجل أخذ التدابير اللازمة في المسائل المتعلقة بمشاركة النساء في عمليات صنع القرار والعمليات السلمية، والأخذ بدمج النوع الاجتماعي في التدريب وحفظ السلم، وحماية المرأة إضافة إلى إدماج النوع الاجتماعي في جميع أنظمة تقارير الأمم المتحدة وآليات تنفيذ البرامج. نعيد اليوم النظر في ديناميكيات تطبيق هذا القرار في الأجسام السياسية السورية المعارضة، والتي تشكلت بعد عام ٢٠١١ ومتابعة النساء العمل السياسي فيها حتى بعد الهجرة القسرية والوصول إلى الشتات الألماني، الذي يضم عدداً من الوجوه النسائية البارزة في الحياة السياسية السورية، واللواتي لعبنّ دوراً شديد الأهمية في العمل على ملفات سياسية مركزية في القضية السورية، مثل ملف المعتقلين/ات والمفقودين/ات، ملف المحاكمات ومسارات العدالة في ألمانيا، وملف اللاجئين/ات السوريين/ات في ألمانيا.
أجرينا مقابلات مع ثلاثة من الفاعلات والناشطات في مجال العمل السياسي والمدني، مقيمات في العاصمة الألمانية برلين ودارت الحوارات حول صعوبات العمل السياسي التي تواجهها النساء، وما هي استراتيجيات العمل السياسي النسائي والنسوي في الممارسة السياسية الراهنة وما هي ثمار هذا الجهد المحموم خلال العشر سنوات المنصرمة.
أجريت المقابلة الأولى مع المحامية جمانة سيف وهي ناشطة في مجال حقوق الإنسان من مواليد دمشق، من مؤسِّسَات الحركة السياسية النسوية السورية ومن مؤسسات شبكة المرأة السورية. انضمت جمانة للمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان (ECCHR) في أيار ٢٠١٧، عملت على قضية جرائم العنف الجنسي والجرائم المبنية على النوع الاجتماعي، منذ أكثر من ثلاثة أعوام. كما التقينا بالناشطة والسياسية النسوية أليس مفرج، مواليد محافظة السويداء، التي بدأت نشاطها السياسي من حزب العمل الشيوعي ومع بداية الثورة أصبحت قيادية في الحزب، عملت مع تنسيقيات نسوية لدعم النساء وتمكينهنّ في مناطق النزاع، ومن ثم أسست شبكة المرأة السورية في السويد وشاركت في مبادرة سوريات من أجل السلام والديمقراطية برعاية الأمم المتحدة، وفي تأسيس الحركة النسوية السياسية. وهي عضوة في اللجنة الدستورية وهيئة المفاوضات وتم انتخابها في جنيف ٤ لتكون نائبة رئيس الوفد التفاوضي. المقابلة الأخيرة كانت مع ماريانا كركوتلي وهي حقوقية سورية وناشطة مدنية، تعمل في مجال التحقيقات الدولية والتحقيقات في مجال الجرائم ضد الإنسانية، مثل جرائم الحصار والتجويع الممنهج الذي حدثت في سوريا، وهي عضوة مؤسسة في منظمة حقوقيات، كما عملت مع مؤسسة تبنى ثورة في برنامج التعليم السياسي، و عملت في مبادرة رؤى من أجل سورية وشاركت في تأسيس حملة سوريا غير آمنة التي تؤكد على أهمية عدم ترحيل السوريين/ات اللاجئين/ات إلى سوريا. ثلاث مقابلات أغنت هذا التقرير وساعدت برسم خريطة للجهد النسوي السياسي المضني في العملية السياسية، استراتيجياته وتقاطعاته مع القضايا السياسية والإنسانية التي تخص السوريين/ات في سوريا واللاجئين/ات والمهجرين/ات قسراً خارجها.
صعوبات العمل السياسي :
تواجه النساء والرجال صعوبات وتحديات كبيرة تتعلق بممارسة العمل السياسي في ظل أنظمة ديكتاتورية لا تعترف بالضغط السياسي ولا تسمح بممارسة حياة سياسية عادلة ديمقراطية لجميع الأطراف وهذا من قبل الثورة. لكن الأمر يزداد تعقيداً بالنسبة للنساء اللواتي يقررن الخوض في معترك السياسة، وذلك لعدة أسباب منها ما يتعلق بالوسط السياسي عينه، ومنها ما يتعلق بالمجتمعات المحيطة الضاغطة على النساء والتي تحاول تنميطهنّ في قوالب اجتماعية تفرغ نشاطهنّ السياسي من معناه الجوهري. دخلت جمانة سيف المعترك السياسي عندما اعتقل والدها رياض سيف لمدة خمسة أعوام من ٢٠٠١ حتى ٢٠٠٦، وعندما جُرد والدها من كامل حقوقه المدنية، عُينت هي لتكون القيم القانوني لوالدها والمتحدثة الرسمية باسمه. «في تلك الأثناء، والدي كان مغيباً لكنه أيضاً متروكاً، حيث لم يكن من الممكن تقديم الدعم له لأن ذلك يشكل خطراً أمنياً على الجميع، وعندها قررت أن أكون أنا من يدعمه قانونياً وسياسياً وحقوقياً، وأذكر أن مصدر العنف حينها لم يكن السلطة فحسب، بل أيضاً تعرضتُ لعنف مجتمعي ضاغط، حيث كان يُنظر للمرأة التي تعمل بالسياسة على أنها مستباحة ومعرضة للاعتقال بأي لحظة، ولا تخصص الوقت الكافي للاعتناء بأسرتها والأولاد، ودائماً كان يتم تحميلي المسؤولية، ففي حال حدث أي مكروه لي أو للمقربين فأنا المسؤولة الوحيدة لأني أعرف نتائج هذه المعركة وماذا يمكن للنظام أن يفعل. والداعم الأول في تلك الفترة كان من الصديقات المقربات اللواتي لم يكنّ عاملات في مجال السياسة لكنهنّ كنّ متضامنات معي.»1 هذا واقع العمل السياسي منذ سنوات طويلة وقبل الثورة، لكن بعد الثورة وبعد تشكل أجسام سياسية معارضة، بدأت تتجلى مظاهر هيمنة الرجال على الأجسام السياسية، وهنا تروي لنا جمانة في أحد الاجتماعات التي كانت ترافق فيها والدها وكان اجتماع توسعة المجلس الوطني، وبالرغم من حضور عدد كبير من النساء الناشطات السياسيات والحقوقيات لذلك الاجتماع، لكن عند اختيار المكتب التنفيذي لم يتم اختيار امرأة واحدة من جميع المشاركات. « كان يُنظر لدور النساء على أنه غير جوهري أو تأسيسي، بل يأتي في مراحل لاحقة من العمل السياسي.»2
السياقات المحلية والأوساط السياسية السورية كانت ضاغطة على النساء، ولكن الانتقال إلى حياة الشتات بعد سنوات الحرب والثورة جعل ممارسة العمل السياسي أصعب على المستوى المهني وأيضاً على المستوى الشخصي والنفسي. بالنسبة لأليس مفرج، والتي تعرضت للاعتقال مرتين في سوريا على خلفية عملها السياسي، وبعد أن نجت من القصف بسبب عملها المدني في مناطق النزاع، اضطرت بعد خروجها من الاعتقال في المرة الثانية للانتقال إلى بيروت وتخبرنا أليس عن هذا مراحل الانتقال القسري واللجوء « بيروت استنزفتنا نفسياً، ومادياً وأمنياً. كانت سنة شديدة الصعوبة عليّ وعلى عائلتي، ونحن جميعنا لا نزال نحمل تراوما (صدمة) الاعتقال والمداهمات والقصف. قررتُ لحظة وصولي لبيروت ممارسة العمل المدني مع النساء في المخيمات السورية في لبنان، لكن بعد سنة حصلنا على حق اللجوء السياسي في ألمانيا، وانتقلت مع عائلتي إلى هنا. في ألمانيا واجهتني تحديات من نوع آخر، منها عائق اللغة الذي منعني أولاً من الانخراط في المجتمع الألماني، ثانياً من إدراة حياتي الأسرية حيث اعتدت أن أكون مسؤولة عن أمور عديدة والآن زوجي يقوم بها، بالإضافة لأن عدم قدرتي على إيجاد اللغة وضعني في مواقف عنصرية عدة في المطارات أثناء سفري. أما مادياً ومعيشياً، فالجميع يعرف أني لا أتقاضي أي تعويض عن عملي السياسي، وهذا مبدأ وأنا ملتزمة به، لكن من جهة أخرى ومن فترة لأخرى تواجهني ضغوطات بيروقراطية من السلطات الألمانية تهدد الاستقرار المادي لي ولعائلتي. بالرغم من صعوبات تعلم اللغة إلا أني استطعت الاستفادة من وجودي في ألمانيا للعمل والتنسيق والتشبيك مع صناع القرار الألماني. والآن بدأت بتعلم اللغة وتأسيس مركز دراسات في برلين مما سينعكس إيجاباً على المستوى الشخصي وعلى المستوى المهني.»3 تتشابه الصعوبات المعيشية التي تعاني منها أليس مع الصعوبات المعيشية التي ت/يعاني منها فئة كبيرة من اللاجئين/ات السوريين/ات في ألمانيا، لكن العمل السياسي كما في حالة أليس، يتطلب منها تفرغاً وجهداً دائمين، وتنقلاً بين بلدان متعددة وحضوراً في الاجتماعات والمفاوضات ومتابعة التطورات السياسية والعسكرية في سوريا. لكن هذا الجهد لا يمكن أن يدفع ثمنه الأفراد من تضحيات ذاتية، فالدعم والتعويض والتسهيلات مطلوبة من الدولة الألمانية حتى تتمكن الناشطة السياسية، أليس وغيرها من العاملات في المجال السياسي، من متابعة العملية السياسية عن كثب.
من جهة أخرى أكدت الحقوقية والناشطة في العمل المدني ماريانا كركوتلي أن اختلاف المرحلة العمرية واختلاف نقطة بداية النشاط السياسي والمدني (في حالتها كانت ألمانيا) كانا عاملين أساسيين لتجاوز العوائق الجندرية أمامها كإمرأة ناشطة، في حالتها الشخصية لم تتعرض لمواقف تمييز جندري ضدها في ألمانيا ومع بدايات عملها المدني والحقوقي، حيث كان وصولها إلى ألمانيا أولاً بغرض دراسة الماجستير في مجال العمل الإجتماعي وحقوق الإنسان، «منذ بداية دراستي في الجامعة هنا كنت في أوساط أكاديمية مناهضة لكافة أشكال العنصرية وتمكن النساء والرجال من امتلاك أدوات لمناهضة كافة أشكال التمييز العنصري والجندري. أنا مدركة تماماً لأن تجربتي تعد تجربة مرفهة بالنسبة للكثيرين/ات وأنا واعية لأنها لا تمثل تجارب النساء السوريات في ألمانيا، ويمكننا القول أني بشكل أو بآخر لم أخض حرباً مع التمييز الجندري ضدي، لكني الآن وكوني أنتمي لفئة عمرية أصغر فأنا أتمتع بثمار معارك سابقة خاضتها النساء على مستوى التمييز الجندري في مراحل سابقة.»4
استراتيجيات العمل السياسي من وجهة نظر نسوية
الملفت للنظر في جميع المقابلات التي أجريت مع الناشطات في العمل السياسي والمدني، تأكيدهنّ على الإصرار والتمسك بالعمل السياسي أولاً، وعلى ضرورة تنظيم هذه الجهود في كيانات سياسية تجمع السوريين/ات المهتمين/ات بالعمل السياسي على اختلاف مراكز تواجدهم/نّ الجغرافي. نوّهت كلٌ من جمانة سيف وأليس مفرج إلى الحاجة للجَلَد وضرورة تمسك النساء بالعمل السياسي، ويمكن أن نفهم ذلك في سياق النضال النسوي السياسي وتاريخه في الحياة السياسية في سوريا أو في الأجسام السياسية المعارضة التي تم تشكيلها بعد الثورة. فنسب مشاركة النساء في المشهد السياسي والتي ذكرتها لنا أليس هي نسب ضئيلة فعلاً تكاد لا تتجاوز ٤٪ في مجمل الأجسام السياسية السورية. «في الوفد التفاوضي السابق التابع للهيئة العليا للتفاوض من أصل ٢٠ رجل يوجد ٣ نساء، أما الآن يوجد في الهيئة التفاوضية السورية من ٣٧ رجل يوجد ٥ نساء. وأنا الآن عضوة في اللجنة الدستورية ومن أصل ٥٠ رجل يوجد ٦ نساء فقط.»5 هذه النسب الضئيلة وبحسب ما تشرح لنا أليس تحمّل النساء عبء مسؤولية التمثيل والحضور وتقاسم العمل بين النساء، وتحديداً في ما يخص جندرة العملية السياسية. «بالإضافة لعملي على ملف المعتقلين والمفقودين، أعمل إلى جانب الزميلتين بسمة القضماني و ديما موسى على جندرة كامل العملية السياسية. نحن الثلاثة مضطرات لبذل جهد كبير إلى جانب العمل على ملفات أخرى ومتابعة عملية التفاوض.»6
وهنا تبرز الحاجة لضرورة تنظيم الجهد وخلق شراكات مع مؤسسات نسوية مثل الحركة السياسية النسوية السورية التي ساهمت بتأسيسها كلاً من جمانة سيف وأليس مفرج بمشاركة نساء سياسيات وفاعلات أخريات. « هذه الحركة تضم عدداً كبيراً من النساء من داخل سوريا ومن خارجها، وأنا فخورة فعلاً بقدرتنا على ضم هذا العدد الكبير من النساء، فنحن نعمل على إعداد ورقات سياساتية من وجهة نظر نسوية وذلك بعد الخوض في نقاش جماعي بين الناس، تطرح فيه المشاركات وجهات نظر مختلفة وتناقش المواضيع من أبعاد مختلفة من شأنها توضيح الالتباس وبناء الجسور بين السوريات في سوريا وفي الشتات. وهذا بحد ذاته إنجاز هام نحو عملية سياسية تشاركية.»7 وفي السياق ذاته أكدت أليس مفرج على النقطة ذاتها، والتي تخص إنجاز ورقات سياساتية من وجهة نظر نسوية وما له من أهمية مستقبلية كبيرة في المراحل الانتقالية والتي يمكن أن تضمن مشاركة نسائية واسعة.
لا يمكن الوصول لهذا التنظيم وبناء كيانات وحركات نسوية سياسية من غير الجلد ومناكفة الوسط السياسي السوري الطارد للنساء. ترى جمانة أن بعض المشاركات في العمل السياسي ارتكبنّ خطأ في ترفعهنّ عن المشاركة السياسية أو في لحظة ما قبولهنّ بالانسحاب من هذه الأجسام السياسية، والتي هي فعلاً تهمش وتطرد النساء بطرق وأشكال مختلفة، لكن الأمر يحتاج للصبر وألا تفرط النساء بأدوارهنّ ومواقعهنّ السياسية».8 هذا ما تتفق معه أليس مفرج «على النساء ارتداء جلد التمساح عند حضور الاجتماعات والمفاوضات».9 لا تنوي أليس تنميط شكل عمل النساء في العمل السياسي، لكن بحسب تجربتها تذكرنا «أن النساء يجنحنّ للحلول السلمية والتعايش المشترك، طبعاً أنا لا أنوي التنميط، العمل السياسي لا ينمط أدوار النساء وأدوار الرجال، لكننا نلاحظ أن نسبة النساء المنسحبات من العمل السياسي كبيرة مقارنةَ بالرجال، الذين في حال وجود انقسامات أو خلافات سياسية، يصبحون مثلاً مستقلين لكنهم لا ينسحبون من العمل السياسي كما تفعل النساء في أغلب الحالات. وعلينا التركيز على نقطة بغاية الأهمية والاستفادة منها وهي أن النساء ينجحنّ بربط العمل السياسي بالأرض والعمل المدني، لذلك هنّ فاعلات في تنظيم المبادرات وهذه المبادرات ضامة وجامعة لمختلف الأطياف.».10 تختلف أسباب انسحاب النساء من العمل السياسي والمدني، لكن البيئة الطاردة لوجودهنّ وعملهنّ في الشأن العام، هي ذاتها المسبب الرئيسي لانسحابهنّ منه، وذلك لأنهنّ معرضات لحملات التشهير والوصم والتهديد مما يؤثر على المستقبل المهني وعلى مستقبل عائلاتهنّ في حالات كثيرة، ذلك عدا عن الأذى النفسي الذي يتعرضنّ له، وهو ما لا يواجهه الرجال أثناء عملهم في الشأن السياسي، وبالتالي يضمن استمراريتهم.
تؤكد ماريانا على ضرورة خلق مساحات للنقاش السياسي بين السوريين/ات في ألمانيا ومع الفئات العمرية المختلفة الناشطة سياسياً ومدنياً وهو المستوى الأول للحوار السوري- السوري، وذلك من أجل تبادل الخبرات السياسية والمعارف وتنظيم نقاشات دورية للتمكين السياسي، وهو ما ركزت عليه مبادرة رؤى من أجل سوريا، وأيضاً في مخيمات التعليم السياسي للشباب والفئات الأصغر عمراً، حيث يتم في حلقات النقاش هذه البحث في الأهداف الضرورية في المرحلة الحالية التي تخص السوريين/ات في ألمانيا؛ ما هي القضايا الملّحة حالياً، ومن يجب مخاطبتهم/نّ من أجل تحقيق هذه الأهداف.
هذا الحوار السوري- السوري يتوازى مع ويحضّر للحوار السوري- الألماني، الذي يهدف بشكل أساسي لخلق سردية مضادة لسردية النظام الإعلامية، وتقديم مصادر معرفة يمكن الوثوق بها بالنسبة للطرف الألماني. « كما أن العمل على ملف اللاجئين/ات السوريين/ات يتطلب استراتيجية أخرى حاولنا تطبيقها في حملة سوريا غير آمنة، وهي الحملة التي ساهمت في تأسيسها، والمُخاطب فيها هذه المرة بشكل أساسي هم الأطراف الألمانية في مراكز صنع القرار، والضغط على السلطات الألمانية من خلال مثلاً إرسال بريد لوزارة الداخلية الألمانية كل عام، نؤكد فيه على أن سوريا بلد غير آمن، تحميلهم المسؤولية في حال اتخاذ قرارات ترحيل، ونطالب برد على البريد الذي نرسله. خلق قنوات التواصل بين الأطراف السورية والألمانية تقتضي بالضرورة التمكين والتعليم السياسي، من أجل معرفة الأحزاب التي يمكن التوجه إليها، الضغط الممكن من داخل هذه الأحزاب، وكيف يمكن مخاطبة كل حزب.»11
الحاجة للتنظيم تبرز أيضاً في الحوار مع ماريانا، التي ساهمت بتأسيس منظمة حقوقيات، وهي مؤسسة تسعى لأن تضم عدد كبير من الحقوقيات السوريات صاحبات الخبرة القانونية والحقوقية الغنية والموجودات في ألمانيا وخارجها، لكنهنّ بسبب عائق اللغة لا يستطعن ممارسة نشاطهنّ الحقوقي. « فكرنا بالحقوقيات السوريات المنتشرات في دول مختلفة، وكيفية الاستفادة من خبراتهنّ، لذلك قررنا في مؤسسة حقوقيات تقديم الخدمات التدريبية باللغة العربية وخلق شبكة للتواصل وتبادل الخبرات وتمكين الحقوقيات من أدوات القانون الدولي التي من شأنها أن تساهم مستقبلاً في مسارات العدالة وبناء الملفات القضائية.»
ومن خلال نظرة بانورامية على هذه الاستراتيجيات، نجد أن الوعي النسوي والإيمان بضرورة ضم عدد أكبر من النساء إلى النشاط السياسي والمدني هو إيمان في جوهره بضرورة التشاركية ودمقرطة العملية السياسية من أجل توليد آليات صنع القرار وصياغة مرحلة مقبلة من وجهة نظر النساء والرجال.
إلى أين وصلنا الآن ؟
بعد سنوات من الجهد المحموم والتعب على كافة الأصعدة الشخصية والاجتماعية والاقتصادية، وبالنظر إلى الضغط السياسي والاجتماعي من أجل ضم عدد أكبر من النساء في العملية السياسية والنشاط المدني في ألمانيا، وفي وسط يخيم عليه الإحساس العام بالانكسار والإحباط والإكتئاب، يبدو أن أي سؤال عن الإنجازات التي وصلنا إليها الآن هو سؤال ضاغط ومحبط، لكن إجابات المشاركات معنا في هذا التقرير، كانت إجابات تحمل الكثير من الأمل والعزيمة وهي أيضاً واقعية، تأخذ بعين الاعتبار التوقعات المرجوة قبل سنوات. تجيب ماريانا كركوتلي على هذا السؤال من خلال التفكير بالجهد الحقوقي والقضائي الذي بذله السوريين/ات في ألمانيا في مسارات العدالة وحق الضحايا وعائلاتهم/نّ، فهي مثلاً تجد أن الجهد القضائي والحقوقي في تفعيل الولاية القضائية في ألمانيا وإجراء محاكمات كوبلنز، وبالرغم من كل الإشكاليات التي حدثت، إلا أنها تعد بمثابة تقدم على الصعيد الحقوقي والقضائي والتوثيقي ضد مجرمي الحرب. وعملها الآن على بناء ملفات قضائية ضد جرائم الحرب، والتي قد لا تنوي ملاحقة مرتكبين بأعينهم إنما توثيق جرائم ممنهجة مثل التجويع والحصار، هو أيضاً خطوات نحو تحقيق شكل من أشكال العدالة وإدانة جرائم الحرب.
أما أليس مفرج، فترى أن المنجزات التي ساهمت الفاعلات السياسيات السوريات بالوصول إليها، مثل الضغط من أجل تثبيت كوتا مشاركة النساء ٣٠٪ في كافة الأجسام السياسية نتيجة عملنا في مبادرة سوريات من أجل السلام والديمقراطية بدعم من الأمم المتحدة، هو تدبير إيجابي مؤقت بمواجهة المحاصصات الاقليمية والدولية، وصحيح أنه تم بضغط من الأمم المتحدة لكنه ما كان ليحدث لولا الجهد النسوي المنظم الذي قامت به النساء السوريات الناشطات سياسياً ومدنياً . كما أن العمل على جندرة أي عمل تنظيمي أو سياساتي مستقبلاً وقوننة العمل السياسي سيكون ركناً أساسياً للدمقرطة. فمن خلال عمليات الجندرة سوف نتوصل حتماً للآليات الصحيحة لأنها تضمن العمل التشاركي.
بالنسبة لجمانة سيف فهي تؤكد أن الإحساس بالإنكسار والإحباط هو إحساس عام، لكن التغيير يحدث دائماً بخطى بطيئة، وهي ترى فعلاً أنه خلال العشر سنوات الماضية برزت ملامح واضحة لحركة نسوية سورية، تطالب بالتغيير من وجهة نظر النساء. وصحيح أن ديناميكيات صنع القرار في الأجسام السياسية الجديدة هي ديناميكيات يهيمن عليها الرجال، خاصة النوع المقنع من الرجال الذي يدعي الدعم النسوي طالما أن النساء العاملات في السياسة لسن منافسات ولسن نداً صلباً. لكن الوعي النسوي الآن أكثر تأثيراً وأكثر قوة وأصبح مخيفاً فعلاً بالمعنى الإيجابي. الأمل طبعاً بالأجيال القادمة التي تحصل شهادات أكاديمية وصارت تتقن اللغة ويمكنها أن توصل صوت القضية السورية إلى أوساط ألمانية أوسع، لذلك من الضروري دائماً نقل هذه القضية وتمثيلها بمصداقية دائماً.
خريطة الجهد النسوي التي يمكن رسمها من خلال المقابلات الثلاث لا تعكس النضال والجهد غير الاعتيادي المطلوب من النساء لاتخاذ مواقعهنّ الفعلية والمؤثرة في العملية السياسية فحسب، بل أيضاً تعكس ضرورة التضامن والتنظيم بين النساء العاملات والناشطات في الشأن السياسي، وذلك من أجل إحداث خطوات استراتيجية وتراكمية في تحسين واقع النساء السوريات وأدوارهنّ في العمل السياسي والمدني. أما أهمية العمل السياسي لكلٍ من جمانة سيف وأليس مفرج وماريانا كركوتلي فهي تنبع من عملهنّ على ملفات شديدة الحساسية والمركزية بالنسبة للقضية السورية مثل ملفات المعتقلين/ات واللاجئين/ات السوريين/ات ومسارات العدالة هذا من جهة، ومن جهة أخرى فأهمية هذا العمل تنبع من الإصرار والتمسك على بناء هذه الملفات والعمل عليها انطلاقاً من رؤية نسوية، وجعل أدوار النساء سياسياً واجتماعياً أدواراً تأسيسية وجوهرية في بناء سوريا مستقبلية تضمن عدالة وحرية وكرامة الإنسان.
- مقابلة مع المحامية والسياسية جمانة سيف، إعداد وديعة فرزلي . ١٨ نوفمبر ٢٠٢١، برلين.
- المصدر السابق ذاته.
- مقابلة مع السياسية النسوية أليس مفرج، إعداد وديعة فرزلي . ٢٣ نوفمبر. ٢٠٢١. برلين
- مقابلة مع الناشطة المدنية والحقوقية ماريانا كركوتلي. إعداد وديعة فرزلي، ١٢ ديسمبر.٢٠٢١. برلين
- مقابلة مع السياسية النسوية أليس مفرج، إعداد وديعة فرزلي . ٢٣ نوفمبر. ٢٠٢١. برلين
- المصدر السابق ذاته.
- مقابلة مع المحامية والسياسية جمانة سيف، إعداد وديعة فرزلي . ١٨ نوفمبر ٢٠٢١، برلين
- المصدر السابق ذاته.
- مقابلة مع السياسية النسوية أليس مفرج، إعداد وديعة فرزلي . ٢٣ نوفمبر. ٢٠٢١. برلين
- المصدر السابق ذاته.
- مقابلة مع الناشطة المدنية والحقوقية ماريانا كركوتلي. إعداد وديعة فرزلي، ١٢ ديسمبر.٢٠٢١. برلين