وسام افرنجية
يتصل الشعر والرمز اتصالاً وثيقاً لدرجة يكادان لا يفترقان عن بعضهما، لاسيما في العصر الحديث الذي أصبحت فيه الحياة أكثر تعقيداً وغموضاً، وأصبح الإنسان فيه رهينَ الحاجات الكثيرة والمتطلبات التي لا تنتهي، على عكس ما اتسمت به الحياة سابقاً من بساطة وسهولة في العيش واقتصار الحاجات على المسكن والملبس والمأكل.
هذه التغيرات الحياتية التي طرأت على الإنسان المعاصر انعكست بشكل كبير على الأدب بشتى أنواعه لاسيما الشعر، ما جعل الشعراء أكثر استخداماً للرمز وأكثر توظيفاً له في قصائدهم، الأمر الذي صيَّر الشعر غامضاً متشعب المعاني شبيه بحياة الشاعر وعاطفته. كما استخدم الرمز في بعض الأحيان للهروب من التعبير المباشر خوفاً من الدكتاتوريات والسلطات القمعية التي أتت على الوطن العربي ومازالت في كثير من دوله.
تتفاوت مستويات توظيف الرمز في الشعر بين الشعراء، بدايةً من الرمز البسيط إلى المعقد وصولاً إلى الرمز الأسطوري الذي يحتاج درايةً بما يرمز إليه لفهم ما يريد الشاعر قوله وفهم الحالة التي يريد إسقاطه عليها.
تعمق الشعراء في العصر الحديث في استخدام الرمز الأسطوري لاسيما الأنثوي، مثل توظيف سير الآلهة
عشتار وإنانا وعناة وغيرهن من الآلهات اللاتي يعكسن مكانة النساء في تلك الأزمنة وريادتهن للمجتمع والعائلة.
فقد كانت المرأة في العصور القديمة القائدة في المجتمع وصاحبة السلطة في العائلة، وبقي حالها على هذا المنوال لما بعد بدايات العصر النيوليتي الممتد بين ٨٥٠٠ ق.م إلى ٤٥٠٠ ق.م والذي شهد اكتشاف الزراعة. هذا الاكتشاف غير حال الرجل من صياد إلى مزارع ومنحه مزيداً من الوقت والراحة وفتح المجال أمامه للتأمل وتثبيت مكانته في المجتمع وفقاً لما ذكر فراس السواح في كتابه «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». وُظِّفَ دور المرأة هذا في قصائد كثير من الشعراء عبر استخدام رموز أسطورية تكسب القصيدة معاني عميقة جداً، ما كان مصدراً للإدهاش وتثبيتاً للتأثير في قلب المتلقي ومسامعه.
ليس بعيداً علينا في الزمن، كتب بدر شاكر السياب قصيدته المشهورة «أنشودة المطر»، كانت المرأة فيها متجسدة بقوة في سلسلة لا تنفك عن بعضها تضمنت الوطن والذكريات ومتضادات الحياة بين الشر والخير وبين الموت والميلاد؛ لكن الممعن في القصيدة لا يستطيع حل لغز «من هي المرأة التي يتحدث عنها الشاعر؟ هل هي أم الشاعر المتوفية أم حبيبته»، فضلاً عن تكرار لازمة «مطر مطر مطر» على شكل استغاثة توحي بشكل كبير باستدعاء للآلهة عشتار آلهة الخصوبة والحب والجمال والتضحية.. وإن لم يذكر اسمها بشكل واضح وصريح لكن صفاتها وسياقات القصيدة تدلك على ذلك، وفقاً لعدة تحليلات متداولة. لغز (إن صح تسميته بهذا الإسم) يصعب فكه لاسيما مع تداخل كل تلك المشاعر في روح الشاعر، واستخدامه للرموز الأسطورية بشكل واسع لاسيما الرمز الأنثوي المتجلي في الآلهة عشتار.
تم في شعر السياب استخدام الرمز الأسطوري وتوظيفه توظيفاً فنياً جعله جزءاً متلاحماً مع كيان القصيدة، وجعل الأخيرة مكثفة، إضافة إلى إخراج الأسطورة نفسها (التي هي “حكاية مقدسة ذات مضمون عميق يشف عن معاني ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان”) من حيثياتها وإسقاطها على حالة واقعية يُعايشها الشاعر، مع المحافظة على إطارها الميثولوجي بحيث لا يخرج عنه ولا ينافيه.
كان الرمز عند نزار قباني أكثر وضوحاً، لاسيما في قصيدته «يا ست الدنيا يا بيروت» التي نادى بها بيروت بـ «يا عشتار» داعياً إياها للقيام، كي تنقذ الحب والفقراء، فضلاً عن إعطاء المدينة كثيرا من صفات المرأة من الحسن والجمال ودفعها ضريبة هاتين الصفتين، ما يوحي بتقارب بين وضع المدينة المتعبة من الحروب وبين وضع المرأة المضطهدة التي دافع عنها نزار بشعره وحاول إنهاضها من السيطرة الذكورية في المجتمعات الشرقية.
ولا يتوقف استخدام الرمز الأسطوري الأنثوي في الشعر العربي المعاصر عند السياب ونزار قباني، بل يتعداه لكثير من الشعراء مثل خليل حاوي ومحمود درويش في كثير من قصائده مثل «حليب إنانا» و«الجدارية»..
باختصار، إن وجود الأسطورة الأنثوية ورمزها في الشعر العربي الحديث يشفُّ بإيحاءات شديدة الجمال عما يجول في نفس الشاعر، وعما يريد قوله، وعما لا يريد قوله بشكل مباشر، ما أعطى القصيدة معانياً لا تنتهي بكلمات معدودة.