السوريون والسوريات يجدون ملاذهم في أسواق البالة
السوريون والسوريات يجدون ملاذهم في أسواق البالة
الصحافية: رؤى زيدان
“تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع «تمكين الجيل القادم من الصحفيات السوريات» بالشراكة بين مؤسستي «شبكة الصحفيات السوريات» و «حكاية ما انحكت». أُنتجت هذه المادة بإشراف الصحافية آلاء محمد.
“نقوم باستيراد الألبسة المستعملة من أوروبا إلى تركيا وندخلها إلى إدلب عبر طريق معبر باب الهوى الحدودي المحاذي لمدينة إدلب، وهنا نقوم بفرز البضائع وترتيبها ثم بيعها، وتتراوح أسعار البضائع حسب جودة البضاعة ونظافتها” يقول تاجر الألبسة المقيم في إدلب، نبهان النبهان.
تنتشر محلات الألبسة الأوروبية المستعملة (البالة) في كافة مناطق الشمال السوري من مدن وأرياف، وحتى أنه يوجد بازار أسبوعي محدّد لكلّ مدينة، مثلاً يوم الأربعاء بازار مدينة إدلب، ويوم السبت بازار مدينة أريحا، ويوم الأحد بازار مدينة الأتارب، وهكذا. كما أيضاً تعمد بعض السيدات اعتماد البيع من المنزل عن طريق النشر على مواقع التواصل الاجتماعي والاتفاق على تسليم ما تمّ شراؤه في مكان متفق عليه.
تُقسم البالة حسب النبهان إلى قسمين، الأول هو الألبسة الجديدة غير المستعملة، والثاني هو الألبسة المستعملة وهي الأرخص ثمناً والتي تلاقي رواجاً من قبل الأهالي في مواسم البيع، لأنها تناسب دخل سكان الشمال السوري.
“ملابس البالة ليست كما يعتقد الكثيرون قديمة ومهترئة، بعضها من ماركات أوروبية مشهورة تتميز بجودة القماش والتصميم، وقسم كبير من هذه الألبسة لم يرتديها أصحابها إلا مرة أو مرتين” يخبرنا النبهان، وينوّه إلى أن زبائن الثياب المستعملة لا يقتصرون على الطبقة الفقيرة فقط الذين يكتفون منها بشراء كسوتهم السنوية، بل أيضاً ميسوري الحال الذين يرغبون بقطع من ماركات عالمية كبرى.
يعود تاريخ انتشار الألبسة الأوروبية في سوريا إلى ثمانينات القرن الماضي، وكانت تصل البلاد عبر لبنان، لكنّها لم تلق رواجاً كبيراً في ذلك الوقت مثلما هي اليوم، حيث ازدهرت أسواقها وبيعها والطلب عليها خلال السنوات الماضية، وباتت الخيار الوحيد لاقتناء الملابس الجيدة وبأسعار رخيصة.
أبو محمد، الرجل الخمسيني والذي يعمل في تجارة الألبسة الأوروبية المستعملة منذ ما يقارب ٣٥ سنة، يرى أنّ “عصر البالة الذهبي كان في الثمانينات، يومها كانت هذه البضائع أوروبية المصدر تسد النقص الكبير في حاجة السوريين للألبسة، لأنّ الصناعة المحليّة كانت محدودة في ذلك الوقت. لكن اليوم زاد الإقبال على بضائع هذه السوق، نتيجة الضائقة الاقتصادية، وكثرة المهجّرين الذين غادروا بيوتهم بسبب الحرب، وتركوا وراءهم كل شيء، بما في ذلك ملابسهم”.
البالة تسد الحاجة
حسب أبو محمد أن مكان سوق البالة تغيّر أيضاً في دمشق، ففيما مضى كان يقع في “زقاق البرغل” أحد أزقة حي “باب الجابية”، وكانت هذه الأسواق وحدها من تعرض البالة وتبيعها عكس اليوم فهي تنتشر في جميع المناطق وتباع لكافة طبقات المجتمع.
تعمل السيدة أم عمر في بيع الملابس الأوروبية المستعملة، وهي امرأة خمسينية تنحدر من مدينة دوما في ريف دمشق. “بعد تهجيرنا من مدينتنا وانخفاض قدرة الناس الشرائية نقلت مهنتي من بيع الألبسة الجديدة للألبسة المستعملة التي تغزو حالياً أسواق الشمال السوري، لأن أسعارها أرخص من الألبسة الجديدة” تقول أم عمر.
أخبرتنا أم عمر أنّ البالة قبل سنوات الحرب كان لها سمعة سيئة متعلقة بكونها “سوق ملابس مستعملة”، فبعيداً عن الهواة الباحثين عن قطع متميزة غير موجودة في السوق، كانت الأغلبية “تفضّل شراء ملابس بجودة سيئة على الذهاب لسوق البالة، عكس اليوم تماماً، فالجميع يتباهى بالملابس التي يشترونها ويخبرون بعضهم عن الأماكن التي اشتروا منها قطع ملابسهم الفريدة”.
توضّح أم عمر أنّها تشتري الملابس المستعملة من التجار، حيث يقارب سعر الطرد ما بين ٤٠ إلى ٨٠ كيلو حوالي خمسين دولاراً أمريكياً يزيد وينخفض حسب جودة البضائع ونظافتها. تقول أم عمر إنّ العمل “لا يخلو من الصعوبات، خاصة أني اشتري البضائع بالدولار الأمريكي وأبيعها بالليرة التركية (العملة المتداولة في شمال غربي سوريا) وسعر الليرة ليست ثابتاً، يرتفع و ينخفض، وأبقى حذرة حتى لا أخسر”.
سعر رخيص وجودة عالية
“اشتريت منذ ثلاث سنوات ولأول مرة قميصاً من البالة، كانت قَصَّتُه مختلفة وتصميمه جميل وقماشته لا شبيه لها في السوق” تقول لنا ريهام (٢٠ عام، من مدينة إدلب) عندما التقينا بها داخل أحد محلات البالة، وهي تبحث بين القطع لتختار ما يعجبها، “عندما أُعجب الجميع بذوقي وبجمال قميصي شعرت بالثقة، خاصة أن لا شبيه لقميصي في السوق، لذلك أصبحت من زبائن محلات البالة الدائمين، أسأل عن اليوم الذي يأتون ببضاعة جديدة حتى أكون أول الحاضرين لاختيار الملابس التي أريد قبل أن يسبقني أحد”.
“لو دفعت أربع دولارات أمريكية فقط ثمن قميص بجودة عالية من البالة على سبيل المثال ما الذي يجبرني على دفع أربعين دولار لقطعة ملابس من ماركة معروفة حتى تكون بجودة بعض الأقمشة المتوفرة في البالة، لذلك اختار توفير مالي لشراء احتياجات أخرى”، وبذلك تخفف على عائلتها بعض التكاليف، تقول ريهام.
تشارك عليا ذات الثلاثين سنة، ريهام في رأيها، وتقول إنّ وجود فكرة القطعة المميزة التي لا شبيه لها في السوق هو أمر مغري لكافة الفتيات الأمر الذي يجعلها تختار ملابسها من محلات الألبسة الأوروبية. “أن اشتري معطفاً من الجلد أو أي قطعة أخرى من البالة ولا أشاهد أي أحد يرتدي مثلها، أمرٌ يرضي غروري، لأنني أحب التفرد في اختيار ملابسي وأهتم بنوعية الأقمشة والتصاميم الجميلة”.
تحاول سلمى الثلاثينية وهي تقف أمام بسطة ملابس أوروبية في مدينة إدلب البحث في كومة الملابس المجمعة أمامها عن بنطال جينز وكنزة، دون أن تجد حرجاً في الحديث عن ولعها بالألبسة المستعملة، ورخص ثمنها مقابل الملابس الجديدة تقول وهي تمدح جودة هذه الملابس: “يكفي أنها أوروبية المصدر قماشتها مميزة لا تهترئ بسرعة مثل الملابس محلية الصنع غالية الثمن ورديئة القماش أما التصاميم مكررة في كل عام، وأكدت سلمى أن الموضوع لا علاقة له بفقر الحال، وإنما بالبحث عمّا هو جيد وجميل وأوفر”.
يخبرنا أحمد (٤٢ عاماً من ريف إدلب) الذي يعمل في مجال البناء أنه يحصل على مبلغ شهري لا يتجاوز مئة دولار أمريكي إذا عمل كلّ أيام الشهر، وهذا المبلغ لا يكفي لمنتصف الشهر، رغم حالة التقشف التي يعيشها مع أسرته في إدلب.
يقف أحمد في أحد محال الألبسة الأوروبية المستعملة حتى يختار معطفاً لابنه البالغ من العمر أربع سنوات. يقلّب المعطف ويتفحص أجزاءه خوفاً من وجود مشكلة فيه من ثقب أو غيره، يكسر صمته صوت البائع وهو يخبره أن معظم المعاطف المستعملة مكفولة وتكون أقرب إلى الجديدة، مؤكداً له أن المعطف أوروبي المنشأ وذو جودة عالية.
يقول لنا أحمد إنّه أبٌ لأربعة أطفال، “إذا ما أردت شراء ثياب جديدة لواحد منهم سوف أدفع كل المبلغ الذي أتقاضاه كلّ شهر ولن يبقى معي دولار واحد لأشتري احتياجات المنزل، لذلك أشتري كل شهر احتياجات واحد من الأولاد من البالة”.
يوافق الرجل الخمسيني سمير، وهو مهجر من الغوطة الشرقية في دمشق ويعمل في إحدى مدارس إدلب، على قول أحمد: “لديّ ثمانية أبناء يحتاجون خلال فصل الشتاء إلى ملابس سميكة تدفئ أجسادهم خاصة أولئك الذين يذهبون إلى المدرسة، لذلك أتيت إلى سوق البالة لأختار لهم مقاسات تناسبهم وتناسب دخلي الشهري البالغ ألفي ليرة تركية (ما يعادل سبعين دولاراً أمريكياً لحظة كتابة هذا التقرير)، وسعر المعطف الشتوي الجديد يتجاوز ألف ليرة تركية”.
الألبسة الأوروبية تناسب جميع الأذواق والطبقات في المجتمع السوري
يحكي أبو أحمد، صاحب بسطة تعرض الملابس الأوروبية في البازارات، أن زبائن البالة ينتمون إلى كافة الطبقات الاجتماعية، لكن الفقراء أو متوسطو الحال يبحثون عن الألبسة المستعملة أما ميسورو الحال فيشترون من تصافي مصانع ومحلات أوروبية وتكون من أفضل البضائع المعروضة هنا. “تصلنا جديدة ويكون سعرها أغلى من باقي البضائع وهناك من يفضلها على أرقى ماركات الملابس المحليّة الصنع لأنها أرخص سعراً وأفضل جودة”، يقول أبو أحمد.
تخبرنا سمر العاملة في متجر لبيع الألبسة المستعملة أن “أسواق البالة لا تقتصر على الطبقة الفقيرة فقط كما هو شائع، إنما يتردد إليها العديد من المشاهير، إذ غالباً ما يفضل هؤلاء الملابس المستعملة، على تلك المحلية والجديدة، وذلك لتصميمها فائق الدقة والحياكة الممتازة”، و تضيف “أفتح هذه الأكياس بحضور زبائن «مهمين» وأثرياء، يرغبون بقطع من ماركات عالمية كبرى ذات جودة عالية”.
تقول سمر إن قطع البالة الممتازة ليست مستعملة، إنما هي من تصفيات متاجر كبرى، وقطعة البالة ذات الجودة العالية تباع بأسعار غالية لهؤلاء الزبائن الخاصين، ثم تعرض الباقي في متجرها. “بالإضافة لإمكانية الحصول على ماركات عالمية بتكلفة قليلة إذا ما قُورنت بنظيرتها الجديدة”، لافتة إلى أن بعض الأشخاص ممن يترددون إليها، لا يجدون حرجاً في شراء الملابس المستعملة، ولا يحاولون الاختباء عن أعين الناس أو الهرب منهم، بينما في الوقت ذاته، يتحاشى البعض الآخر التردد إلى سوق البالة علناً بينما يقصدونه خفية، وذلك حفاظاً على خصوصيتهم، “هناك قسم من زبوناتي الأثرياء، يخشين أن يراهن أحد أثناء دخولهن متجري، فيطلبن مني توفير الخصوصية اللازمة لهن، كأن يأتين في يوم عطلة لضمان عدم وجود أي زبون” تقول سمر.