خطأ طبّي صحَّحَته مهندسةٌ بإصرارها

نورشان حسين… إصرار على مواجهة العقلية الذكورية

نورشان حسين

“النسوان صارت تفهم بالأمور الخدمية!” قالها، مستهزئاً، أحد مراجعيّ هيئة الإدارة المحليّة بعد رَفْضِه طَرْحا قدمته المهندسة نورشان حسين، مطالباً بمقابلة “رجلٍ مسؤول”!. في لقائها معنا، تحكي نورشان المصاعب التي تعترضها في عملها بمواجهة عقلية ذكورية مسيطرة، وكيف تسعى للتخلّص منها وتحقيق المساواة بين الجنسين.

سوزدار محمد

تنشر هذه المادة بالتعاون مع “حكاية ما انحكت“، ضمن برنامج “النساء والسلام والأمن” التابع لمؤسسة شبكة الصحفيات السوريات.

(القامشلي)، “اعتادّ المجتمع على رؤية رجالٍ كبارٍ في السّنّ في المناصب الإداريّة والسياسيّة، ولَمْ يَكُنْ شائعاً تولّي نساء شابات للحقائب الوزارية”. هذا ما تقوله لحكاية ما انحكت المهندسة، نورشان حسين، وهي تحكي عن المصاعب التي تعترضها في عملها بمواجهة عقلية ذكورية مسيطرة، فكيف إذا كانت صاحبتها من ذوي الاحتياجات الخاصة؟

وُلِدِتْ نورشان في عفرين، وهي في خِضَمّ تحديّات قلّما يستطيعّ الإنسان مواجهتها. البدايةُ كانتْ بخطأ طبّي حدث لها بعد عامين من ولادتها، وتسبّبَ بإصابتها بمرضِ شَلَلِ الأطفال. لكنّ ذلك الخطأ، لَمْ يُغيِّر نَمَطَ حياتها ويدفعها للاستسلام، بَلْ كان سبباً ودافِعاً عندها لِتَبدأ مسيرتها العمليّة، مُحَقّقةٍ الكثير من الإنجازات المهمّة، سواءً على الصعيد الشخصيّ أو العام.

مهندسة في حلب وغرفة المهندسين بعفرين

عَمِلَت نورشان (35عاماً) في بداية عملها في قِسْمِ التخطيط العمرانيّ في إحدى بلديات مدينة حلب، لتنتقلَ بَعْدَها للعَمَلِ في شركةٍ خاصّة للمقاولات الهندسيّة، وذلك، بعد أنْ حَصَلَتْ عام 2008 على إجازة في الهندسة المعماريّة من جامعة حلب. ويعتمد هذا الفرع الدراسيّ على الرَّسم اليدويّ، وهذا يتطلّب ساعاتٍ من الوقوف والانحناء على طاولة الرّسم، لكنّ إرادة نورشان كانتْ أكبر من معاناتها “كنتُ أقاومُ الأَلَم والمرض، حتى تخرّجْتُ دون أيّ تأخّر دراسيّ” تقول لحكاية ما انحكت.

المرحلة التي تعتبرها نورشان الأهمّ والأصعب في حياتها، كانت فترة العمل في مؤسّسات الإدارة الذاتيّة في مقاطعة عفرين، وتَصِفُها بأنّها “حافلةً بالصّعوبات والتحدّيات بالنسبة لي كامرأة من جِهة، وكإحدى ذوات الاحتياجات الخاصّة من جِهةٍ أخرى”.


بدأتْ المهندسة نورشان مسيرتها المهنيّة في عفرين، كعضوة مؤسِّسة لغرفة مهندسيّ عفرين عام 2013. ولكنْ بِقَدْرِ ما كانت التّجربة غنيّةً ومفيدة لها “كانت تحتاج، في نفس الوقت، إلى كفاحٍ وجُهْدٍ مُضاعَف لمواجهة نَظْرةِ المهندسينَ للمهندسات، وخاصّة اللواتي تخرَّجْنَ حديثاً” كما تقول لحكاية ما انحكت.

“رَفْعِ نسبة تمثيل النّساء في الهيئة الإداريّة لغرفة مهندسيّ عفرين كان بمثابة إنجاز حَقَّقْتُهُ في بداية مسيرتي المهنيّة” تقول نورشان في معرض سَرْدِها للجهود التي بَذَلَتْها مع عدد من المهندسات في الهيئة الإداريّة “للغرفة”. وتضيف لحكاية ما انحكت “حاولَ المهندسون المشاركون في المؤتمر التأسيسيّ للغرفة، بإصرار، أنْ تكون نسبة تمثيل المهندسات في المجلس الإداريّ ما بين (25) و(30) بالمئة” وقد جُوبِه طرحها لِرَفْع النّسبة إلى (40) بالمئة بالرّفض من العقليّة الذكوريّة المتواجدة في المؤتمر، لكن كان لها ما أرادت في نهاية الأمر.

رئيسة هيئة الإدارة المحليّة والبلديّات بعفرين

شغلت نورشان عام 2014 منصب رئيسة هيئة الإدارة المحليّة والبلديّات في مقاطعة عفرين، المنصب الذي كان يتطلّب منها عَمَلاً على مستوىً عالٍ، وجهداً أكثرَ من السابق في التنقّل والإشراف الميدانيّ على الأعمال والمنشآت المعماريّة، وهو ما لَمْ تتردّد في خَوْضِه، على الرّغم من حالتها الصحيّة التي تتطلّب راحةً وأسلوبَ حياةٍ سَهْل، لكن إصرارها وتعاون المحيطين بها في الهيئة، وتوفيرهم للبيئة المناسبة للنجاح ساعدتها للوصول إلى هدفها.

تشيرُ نورشان إلى أنّ مِنْ أصعب ما واجهته في عملها الإداريّ بِشَكْلٍ خاصّ، والنساء الإداريّات بشكلٍ عامّ في عفرين كانَ قلّة الخبرة في هذا النّوع من العمل، إلى جانب عدم تأهيلهنّ مسبقاً “دخلنا الحياة العمليّة، وتعلّمنا عن طريق التجربة والخطأ” تقول لـ”حكاية ما انحكت”.

وبِقَدْرِ ما كانت تنهمكُ في متابعة المشاريع الخدميّة، كانت تُجْهِدُ نفسها بتغيير نظرة المجتمع للمرأة؛ المجتمع الذي لَمْ يَكُنْ معتاداً، أو كان رافضاً لفكرة خروج النساء للعمل، وتولّيهنّ مناصب إداريّة وسياسيّة يراها من حقّ الرّجُل فقط، حيث تقول نورشان “نعيشُ في عالمٍ ذكوريٍّ بامتياز، والمجتمعات على اختلاف أعراقها وثقافاتها ترى أنْ الذَّكَر هو الأصل والأنثى هي الفرع، فنحن اليوم نواجه التمييز على أساس الجّنس في كلِّ مكان”. وتضيف “لكي تتغيّر هذه الذهنيّة العابرة للقارات؛ علينا أنْ نبدأ بنهضة جذريّة ونَقِف في وجه جميع أشكال التمييز، ويحتاج الأمر إلى وَعْيٍ ونضالٍ مستمرّ وتكاتف نسويّ حول العالم”.

“النسوان صارت تفهم بالأمور الخدمية!” قالها، مستهزئاً، أحد مراجعيّ هيئة الإدارة المحليّة بعد رَفْضِه طَرْحا قدمته نورشان، مطالباً بمقابلة “رجلٍ مسؤول”. تسردُ نورشان الموقف، وتضيف “لَمْ يَكُن مقتنعاً بِقُدْرَتي على حلّ مشكلته، حتى أبْدَيْتُ وجهةَ نظري حولها، وشرحتُ له آلية حلّها بطريقة علميّة، فخرج من الهيئة مذهولاً”. ولم يقتصرْ الأمر على المراجعين/ات فَحَسْب بَلْ “كان زملائي أيضاً لا يثقون بقدراتي العمليّة لإدارة عمل البلديّات، إذ سادتْ النّظرة الدونيّة للنساء الإداريّات بشكلٍ عامّ، وعدم تقبّل فكرة ترؤُّس المرأة لمنصب الوزارة” (تسمى الوزارات بـ بمسمّى “الهيئات” في الإدارة الذاتيّة).

إلا أنها تشير بذات الوقت لـ حكاية ما انحكت إلى أنّ “نظرة المجتمع السلبيّة للمرأة تبدّلتْ بنسبةٍ لا بأس بها، وخاصّة بعد ظهور تجارب ناجحة للنساء الإداريّات في عفرين” وتَصِفُ التجربةَ المُجْهدةَ بأنها “كانتْ كفاحاً يوميّاً مستمرّاً ضدّ العراقيل التي تعترض النساء من قِبَل الرجال غير الديمقراطيين!” على حدّ تعبيرها.

“كانت نورشان تُصِرّ على مشاركتنا كنساء في كلِّ عملٍ ضمن البلديّات مع الرّجال، لقد كان التعاون والمشاركة والمساواة من أولويّات العمل لديها” تقول زهريبان حسن، إحدى عضوات لجنة المرأة في الهيئة التي ترأستها نورشان.

تعتبرُ زهريبانُ نورشانَ قُدْوة لهنّ إذْ إنّها “كانتْ تسعى بكلّ طاقتها لمساعدة النساء؛ لإثبات أنفسهنّ في مجال العمل، لقد علَّمَتْنا كيف نتعاون ونعمل لإثبات أنفسنا” تقول لـحكاية ما انحكت، وتؤكّد أنّها -أي نورشان- “تركْت أثراً إيجابيّاً في الحدِّ من التفكير الذكوريّ لدى العاملين والعاملات في الهيئة، على حدّ سواء”.

من جانبه، يقول الرئيس المشترك لمديريّة الطاقة في مقاطعة عفرين، محمد محمد: “نورشان تمتلك من الخبرة ما هو كافٍ لتُدِيْر هيئةً بأكملها، وتُحْدِثَ تغييراً في عمل البلديّات بشكلٍ جذريّ”. ويؤكّد “كنا نلجأُ إليها في المشاكل التي كانتْ تواجهنا؛ كانت تحاولُ أنْ تطوّر المستوى المهنيّ والفكريّ لدى جميع الأعضاء/العضوات”.

نشاطات نَسَويّة ورحلة النزوح

عملتْ نورشان كناشطةٍ نسويّة منذ بداية مسيرتها في الإدارة الذاتيّة وحتى الآن، وكتبتْ عدّة مقالاتٍ عن قضايا المرأة، والعنف ضدّ المرأة، بالإضافة إلى عشرات المحاضرات المتعلّقة بحريّة المرأة، كما نظّمتْ ندواتٍ خاصّة للتعريف بقضايا المرأة، بهدف زيادة نسبتها في سوق العمل، ومشاركتها في الحياة السياسيّة، وتفعيل دورها في عمليّات صُنْعِ القرار.

كما شاركتْ بإعداد قانون حماية المرأة الذي أقرّته الإدارة الذاتيّة لشمال وشرقيّ سوريا، والذي يَقْضي بـ”المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في كافّة مجالات الحياة العامّة والخاصّة”. ومن بنود هذا القانون: منع تعدُّد الزّوجات، ومنع التزويج القسريّ، وتزويج القاصرات، وإلغاء المَهر، ومَنْعِ الطلاق بالإرادة المنفردة، وتجريم القتل بذريعة “الشّرف”، والمساواة في الميراث، وإعطاء المرأة الحقّ في حضانة أطفالها.

تُقيّم نورشان وَضْع المرأة في فترة حُكْمِ الإدارة الذاتيّة في عفرين بالقول “نساء عفرين، قبل الأزمة السوريّة، كُنَّ يَعِشْنَ حالةً من التحرّر غير المُنَظَّم، لكنّهنّ وَجَدْنَ في الواقع الجديد المتشكِّل خلال الأزمة السوريّة فُرصةً لتنظيمِ أنفسهنّ، وزيادة فعاليتهنّ في المجتمع”. وتستشهد في ذلك بزيادة نسبة النساء في السِّلْكِ التعليميّ لِتَصِلَ إلى (80) بالمئة، وفي البلديّات والمجالس المحليّة (50) بالمئة “تلك النِّسَب لَمْ تَكُن كذلك قبل الأزمة” تقول نورشان وتشير إلى أنّ “زواج القاصرات في منطقة عفرين كان يكاد أنْ يَصِلَ إلى نسبة صفر، وتعدّد الزّوجات كان نادر الحدوث، فالمحاسبة القانونيّة كانتْ عامل ضبط للعنف المُمارَس ضدّ المرأة”.

كانتّ نورشان، ورغم ظروفها الصحيّة، ومشاكل التّنفّس التي تعانيها، من بين النازحين/ات مع عائلتها إلى مناطق ريف حلب الشماليّ إثْرَ عمليّة “غصن الزيتون” التي نفذّها الجيش التركيّ مع فصائل سوريّة موالية له آذار/ مارس العام 201١، والتي سيطروا من خلالها على منطقة عفرين شمال غربيّ سوريا.

ورغم سُوء وَضْعِها الصحّي حينها، إلّا أنّها باشرتْ بإعداد مخطّط لإنشاء مخيّمات النزوح للنازحين/ات مع إشراف ميدانيّ على كامل عمليّات البِناء وتجهيز المخيّمات.
مع بداية عام 2020 انتقلتْ للعمل في السِّلْك الدبلوماسيّ، حيث تَشْغَل الآن منْصب ممثّلة الإدارة الذاتيّة في السليمانية في إقليم كُردستان العراق، ولهذا كان تواصلنا معها عن طريق الواتساب لإعداد هذه المادة.

تقول نورشان: “لقد استطعت أن أُثْبِتَ لنفسي ولمجتمعي أنّ النساء من ذوات الاحتياجات الخاصة قادرات على تحقيق ذواتهنّ، وخدمة مجتمعاتهنّ وإحداث تغيير إيجابيّ فيها، كما استطعتُ، ولو نسبياً، إحداث تغيير في نظرة المجتمع للمرأة، والصورة النمطيّة السائدة عن النساء”.

وتضيف “حقيقةً، نستطيع القول إنّ كلّ شخص مِنّا يمكن أنْ يُعتبر/تُعتبر من ذوي/ذوات الاحتياجات الخاصّة؛ فالكلّ ينقصهُ شيءٌ ما، ولكنْ بالإرادة وخَوْضِ التجارب، والمثابرة، نستطيع سدّ هُوّة النَّقْص، نستطيع أنْ نصير ذوو/ذوات فائدة للمجتمع الذي نعيش ضُمْنَه”.