علياء أحمد
مع اندلاع الثورة السورية في آذار (مارس) 2011 انتهت حالة الجمود والتكلّس التي كانت مهيمنة في سوريا لعقود طويلة؛ فقد أوجدت الثورة هوامشاً لم تكن متاحةً من قبل وسمحت بظهور مئات المنظمات والحركات المدنية المستقلة عن السلطة المركزية، خاصةً المنظمات والحركات النسوية، وذلك لأول مرة منذ استيلاء حزب البعث على السلطة عام 1963. غير أنّ التناقض بين كثرة المنظمات والتحالفات النسوية، وانخفاض تمثيل النساء في مواقع صنع القرار، إضافة لتزايد الانتهاكات وأشكال العنف ضد النساء في جميع أماكن تواجدهن داخل سوريا وخارجها، يُثير التساؤل حول جدية عمل هذه المنظمات، وماهية التحديات والصعوبات التي تواجهها وتحول دون تحقيق أهدافها، رغم الدعم والتمويل الذي توفّر لأغلبها.
قدرات وفرص متفاوتة بين المنظمات في التواصل مع المانحين
كان من حسن حظ المنظمات والحركات الجديدة المنادية بحقوق النساء وضرورة مساهمتهن في صنع المستقبل السوري، أنها تشكّلت بالتزامن مع انتشار رؤية وتوجهات عالمية ترى ضرورة إفساح المجال بشكل أكبر لمشاركة النساء، وظهور ممولين وجهات مانحة تُقدّم الدعم لمشاريع تسعى لإنجاز هذه الرؤية. لكن قدرات المنظمات في الحصول على التمويل متفاوتة جداً، فهذا يتطلب خبرات خاصة كإجادة اللغات الأجنبية، وامتلاك مهارات كتابة وتصميم المشاريع وخطط العمل باحترافية تراعي المعايير المتبعة لدى المانحين، والقدرة على تجديد المشروعات وتوسعيها وغيرها من المتطلبات.
غالباً ما تكون الفرص متاحة بشكل أكبر للمنظمات الموجودة في الخارج التي تتمتع بإمكانيات التواصل المباشر مع المانحين، وتعمل في ظروف أقل صعوبة بالمقارنة مع المنظمات الموجودة داخل سوريا التي تفتقر للدعم وتعمل في ظروف خطرة وبالغة التعقيد. وليس خفياً على أحد أن معظم الجهات الداعمة والممولة لأنشطة هيئات المجتمع المدني، ومن ضمنها المنظمات النسوية، مرتبطة بشكل أو بآخر بحكومات دول متورّطة في الصراع السوري وساهمت سياساتها بطرق مختلفة في استمراره. وقد تجلى هذا الارتباط بشكل ملحوظ بتغيّر السياسات التمويلية مع تبدّل المعطيات السياسية، مما حدّ من قدرة المنظمات على التركيز في مجالٍ واحدٍ وتنميته وترسيخه، فظهر عمل معظمها مبعثراً ومشتتاً تبعاً لما فرضته مقتضيات التمويل.
سلطة ذكورية وظروف عمل صعبة ولكن مازال نضالهن مستمراً
ورغم سعي بعض المنظمات النسوية في الخارج إلى التمدد داخل الأراضي السورية أو إيجاد منظمات شريكة هناك ودعمها ومساندتها، إلا أنّ الأهداف المرجوة لم تجد طريقها إلى التحقق وفق ما هو مرسوم لها، لأن التنفيذ “لا يتم كما يجب” بل ينحرف بمجرد انتقال العمل إلى الداخل، لأنه يصبح تحت سقف المتاح على أرض الواقع، أي تحت سقف السلطة البطريركية للمجتمعات المحلية والأطراف المسلحة المسيطرة.
ومع سعيها لتأمين احتياجات النساء اللواتي تغيرت أدوارهن الاجتماعية في ظل الحرب، كثيراً ما تضطر منظمات الداخل إلى مراعاة القيم والعقليات الذكورية السائدة، حتى أنها كثيراً ما تعمد إلى استخدام كلمة “النسائية” بدلاً من النسوية في تعريفها أو عند توصيف مشاريعها، نظراً لما يحمله مصطلح “النسوية” من أبعاد ومعانٍ تحررية مرفوضة من قبل الرجال المسيطرين في مناطق عمل هذه المنظمات. وفي النتيجة، يقتصر عمل هذه المنظمات، أو يكاد، على نشاطاتٍ تساعد النساء على تأمين لقمة العيش، دون أدنى محاولة لتغيير الأدوار الجندرية أو بنية السلطة وأنماط العلاقات السائدة. ورغم هذه المراعاة الشديدة للعقليات الذكورية المتسلطة إلا أن ذلك لم يحل دون تعرض المنظمات النسائية في الداخل للاعتداءات والتضييق والإساءات. ورغم هذه الظروف المعقدة ما زالت أعداد كبيرة من الناشطات مستمرات في العمل والنضال، وهذه الشجاعة والإرادة الصلبة تُسجّل لهن،ّ سواء أصابت منظماتهن أو فشلت في تحقيق أهدافها على المدى القريب، فإن مجرد الوقوف في وجه قوى مستبدة من أجل دعم النساء خطوة مهمة يُبنى عليها لاحقاً.
لاتقتصر محاولات السيطرة والتحكم على عمل الناشطات والمنظمات النسوية في الداخل، بل تشمل أيضاً بلدان اللجوء في دول الجوار وغيرها عبر الضغط على النسويات والتعرض لهن. وكثيرة هي الوقائع التي واجهت فيها الناشطات أشكالاً متعددةً من العنف، ابتداءاً من التحرش البصري واللفظي وليس انتهاءً بمحاولات التشهير والإساءة للسمعة وتضييق الخناق.
عدم الاعتراف بإنجازات النساء على الصعيد المهني والشخصي
إضافة لما سبق، يُلاحظ إصرار البعض على التقليل من أهمية إنجازات النساء والمنظمات النسوية، فلا تقف الصعوبات عند المنظمات ككل وإنما تطال الناشطات بشكل شخصي، انطلاقاً من موقف يرفض بالمطلق فكرة استقلالية النساء وإمكانية نجاحهن وتفوّقهن على زملائهن الرجال. وما زال الكثيرون يرفضون العمل مع النساء، فيحاربون المرأة في موقعها ويسعون إلى تكريس الصور النمطية عنها، حتى في طريقة النقد أو المزاح. ويحدث أنّ رجالاً يدعون مناصرتهم لحقوق النساء، بيد أنهم ينزلقون في ذكوريتهم عند أول مطب. الأمر الذي يدفع بعض النساء أحياناً إلى تقييد عفوية تصرفاتهن والدفاع عن أنفسهن باستخدام نفس الأدوات التي يُحارَبن فيها، فتكتسي ردود أفعالهن ذكوريةً لا تقل سوءاً، وينجررن بدون قصد إلى ساحة النزال الذكورية التي تحكمها قيم وأحكام لم تشارك النساء في وضعها، وبالتالي يرسّخن القيم نفسها التي تُصورهن في مرتبة أدنى أمام الرجال الذكوريين.
على الرغم من الصعوبات المتزايدة، يُؤمل من المنظمات المدنية النسوية أن تكون هيئات فاعلة في المجتمع ومؤثرة في تحسين أوضاع النساء من خلال العمل على رفع وعيهن بحقوقهن والدفاع عنهن، والتأسيس المنهجي لوعي نسوي يضمن إيجاد الفرص عبر إشراك فئة واسعة من المواطنات والمواطنين المؤمنين بالنسوية بفعالية في مختلف مستويات صنع القرار.
عن الكاتبة:
عليا أحمد باحثة سورية وهي مدربة في قضايا المرأة والطفل