عن دور الرعاية المنتشرة في شمال غرب سوريا وجنوب تركيا
الصحافية: محاسن سبع العرب
“تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع «تمكين الجيل القادم من الصحفيات السوريات» بالشراكة بين مؤسستي «شبكة الصحفيات السوريات» و «حكاية ما انحكت». أُنتجت هذه المادة بإشراف الصحافية زينة البيطار.”
لم يتوقف هاتف سهام (اسم مستعار) عن الرنين طوال ساعتين. تُقيم سهام في واحدة من دور الرعاية المنتشرة في جنوب تركيا. تقول إنّ هذه الاتصالات المتتالية من مدير الدار الذي تقيم فيه، وهو يحاول إقناعها “بإلحاحٍ مزعج” بفكرة الزواج من “مُسن خليجي سيزورهم خلال الفترة المقبلة”.
قالت سهام إنّ مثل هذه القصص تكررت بشكل متواتر خلال السنوات السابقة، حيث يتم عقد الزواج حين يقيم هذا الرجل هنا لفترة قصيرة، ويقوم بجولة في المنطقة. ليس من باب الصدفة أنّ هذا الرجل هو أحد الداعمين أو المانحين للدار التي تقيم فيها سهام.
لم تقبل سهام أن ننشر أيّ معلومات شخصيّة عنها، أو عن اسم الدار أو مكان تواجده، ولم نستطع البحث والتقصي بحريّة، فسابقاً وبمجرد معرفة أنّ إحدى المقيمات في إحدى الدور قد تحدثت لوسيلة إعلامية، طُردت مع أطفالها من الدار. خلقت هذه الحادثة الخوف لدى الأخريات للحديث عمّا يواجهنَ في دور الرعاية.
ما هي دُور الرعاية؟
خلال السنوات الأخيرة، وبعد توالي الكوارث على السوريين/ات، اضطر الملايين منهم إلى الهجرة والنزوح إلى أماكن أخرى. خسرت الكثير من العائلات معيلها الوحيدة، ومن أجل ذلك أقيمت وحدات سكنية تسمح للنساء ممن فقدن أزواجهن أن يقمن فيها برفقة أطفالهن، وسُميت هذه الوحدات بـ”دُور الرعاية”، أو “مخيمات الأرامل”.
انتشرت دُور الرعاية بشكل رئيسي في شمال غرب سوريا، إضافة إلى تواجد بعضها في دول الجوار (تركيا، لبنان، الأردن). كشفت إحصائية أجراها فريق GOV AoR، بدعم من فريق حماية الطفل في غازي عنتاب، عن وجود ما لا يقل عن خمسين مخيم للأرامل في شمال غرب سوريا، في الوقت الذي لا توجد فيه إحصائيات دقيقة لعدد المخيمات الشبيهة في دول الجوار أو لأعداد المستفيدات والمقيمات فيها.
تستضيف المخيمات شمال غرب سوريا، بحسب الإحصائية، ما يقدر بحوالي عشرين ألف امرأة وطفلاً (١٩.٣٥١ امرأة وطفلًا يقسّمون إلى ٦.٣١٢ امرأة، و٧.٠٢٧ طفلة، و٦.٠١٢ طفلاً).
تتم إدارة هذه المواقع من قبل سلطات مدنية وعادة ما يتم تمويلها من قبل جهات مانحة غير تقليدية، بما في ذلك الجهات المانحة من دول الخليج والجمعيات الخيرية والمنظمات، ومع انخفاض التمويل من هؤلاء المانحين خلال السنوات القليلة الماضية، تم فتح مساحة أكبر للتدخلات الإنسانية.
تفرض غالبية هذه المخيمات قيوداً على حريّة حركة النساء والأطفال المقيمين في الموقع.
منزل بديل؟
تقول لنا مديرة مكتب الأيام في مؤسسة جيل القرآن العاملة في شمال غرب سوريا، ربا منصور، إنّ مهمة هذه الدُور تتمحور حول احتواء الأطفال الأيتام وأمهاتهم وتقديم بديل للمنزل الذي فقدوه إضافة إلى تقديم بعض الأنشطة التعليمية والترفيهية، وإنّ الوقف التابع لهم مخصص لعوائل الأيتام، حيث “تسكن كلّ عائلة في بيت مستقل، كي لا نضطر إلى فصل الأيتام عن عائلاتهم والتسبب لهم بالمزيد من الأذى”.
حسب منصور، فإنّ “اليتيم يمارس حياته الطبيعية هنا، ونعمل بشكل جدي على دمجه في المجتمع، فهو يذهب الى المدرسة برفقة أقرانه ثم إلى الجامعة، ويحظى ببرنامج مليء بالأنشطة التعليمية والترفيهية والبدنية، وتمارس الأمهات المقيمات برفقة أبنائهن حياتهن بشكل طبيعي، فمنهن من تعمل ومنهن من ترتدي الجامعات لإكمال دراستها”.
فيما يقول مدير وصاحب دار محمد الدهيشي لرعاية الأيتام في ولاية هاتاي التركية، محمد عارف الحمود، إنّ الدار أُنشأت عقب الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في شباط ٢٠٢٣ وكان الهدف من إقامته هو تأمين مكان إقامة للأيتام وعائلاتهم، وإنّ هدف الدار هو رعاية اليتيم بشكل أساسي.
بحسب الحمود فإنّ “اختيار العائلات يتم من قبل لجنة مختصة ويوضع في الحسبان أعمار الأطفال الذكور حتى لا نضطر لفصل الطفل عن أمه”.
يرفض الحمود فكرة فصل الأطفال عن أمهاتهم لأن ذلك يؤدي حتماً لضياع مستقبل اليتيم والتأثير عليه سلباً في بقية أيام حياته، ويفضلُ أن تكون العائلة كلها في مكان واحد، “حتى لو اضطر اليتيم وأمه للعمل من أجل تدبر أمور حياتهم”.
لكن!
لم تنطبق هذه التصريحات على عدد من الأماكن التي استطلعناها، أو على ما سمعناه خلال مقابلات قمنا بإجرائها. فالكثير من دور الرعاية وضعت شروطاً، وُصفت لنا بالقاسية، على قبول النساء والأطفال فيها.
حدّثنا (س. أ) وهو إداري في أحد دور الرعاية، رفض الكشف عن اسمه الكامل، عن شروط القبول في الدار: “وضعنا في الدار الكثير من القوانين والشروط لقبول المستفيدة برفقة أطفالها، من أهم هذه الشروط منعها من العمل خارج الدار وعدم استقبال أي شخص من الخارج، وخروجها بساعات محددة من النهار. نقيم أحياناً بعض الدورات المهنية بشرط أن تكون داخل الدار وتحت أعيننا، يهمنا عدم المساس بسمعة الدار أو بسمعة النساء المقيمات”.
يتابع الإداري حديثه قائلاً إن وافقت المرأة على هذه الشروط فإنّها ستحصل على إقامة مجانية شاملة وجبات الطعام. انطبقت شروط مشابهة على عدد من دُور الرعاية الموجودة في سوريا أو في دول الجوار التي استطلعناها.
شرح لنا مؤسس وصاحب دار الولاء الواقعة في ولاية هاتاي التركية، سلطان قدور، شروط قبول النساء في دار الولاء. حيث يُشترط “أن تكون المرأة أرملةً أو وحيدة ولا تملك أيّ مأوى. وأن توافق على جميع قوانين الإقامة، ومن ضمنها عدم السماح لها بالعمل خارج السكن أبداً”، كما تشترط الدار أن يتم فصل الذكور عن أمهاتهم عندما يبلغون الثانية عشرة من عمرهم، وفي حال رغبة الأم في البقاء في الدار بعد أن يبلغ ابنها ذلك العمر، فيتوجب عليها إيجاد مسكن آخر للطفل خارج الدار.
تقيم أكثر من عائلة في شقة واحدة، حسب قدور، ولذلك يتم فصل الذكور من السكن من أجل توفير راحة أكبر للعائلات المقيمة، “ولتجنب حدوث مشكلات، لكن تبقى الأمهات على تواصل مع أبنائهن، بالإضافة إلى الزيارات المنتظمة والمتابعة من قِبل الإدارة”.
يقول قدور إنّ الأطفال، وبعد خروجهم من الدار يقيمون مع أقربائهم كالجد والجدة أو أحد الأعمام، بينما يختار البعض الآخر السفر إلى ولايات أخرى بغرض العمل أو الدراسة.
دار إقامة أم سجن؟
لم نستطع الحصول تصريحات من المقيمات في هذه الدُور بسهولة، وكان الجواب المشترك الواضح: “سوف يتم طردنا لو تحدثنا”.
رغم ذلك، استطعنا لقاء (خ. ز)، وهي إحدى المقيمات في واحدة من هذه الدور، قالت لنا إنّ المقيمات في مخيمات الأرامل “يتعرضن للكثير من الضغط والتضييق بعدّة أمور، منها التدقيق المبالغ فيه على خروجهن ودخولهن إلى المخيم، فلا يمكن أن يحدث ذلك إلا بإذن مسبق وضمن ساعات معينة يحددها القائم على الدار؛ وإلا سيتعرضن للتهديد بالطرد وللمعاملة السيئة، بالإضافة لفصل الأطفال الذكور عن أمهاتهم حال بلوغهم سناً معيناً (ما بين ١١ و١٣ سنة)”.
التقينا أيضاً بأم أحمد، وهي إحدى المقيمات السابقات في إحدى دُور الرعاية في ولاية هاتاي التركية. قالت أم أحمد إنّها أقامت لسنوات عديدة في دار رعاية رفقة أبنائها، وإنّها خرجت منذ عدّة أشهر “بعد أن شعرتُ أن حياتي أصبحت أشبه بالسجن الكبير، فحركتي مُقيدة ومحسوبة، خروجي ودخولي من وإلى الدار يجب أن يكون بطلب إذن مسبق، بالإضافة إلى شعوري بأن ابني (١٤ سنة) غير مرحب به، وللأسف توقفت بخروجي المساعدات التي كنت أحصل عليها”.
أخرجت أم أحمد ابنها من المدرسة، وألحقته بعمل يدوي في ورشة، وتعمل هي على مكينة الخياطة في المنزل، حتى يستطيعوا تأمين مستلزمات الحياة.
يقول لنا الإخصائي النفسي العامل مع منظمة UOSSM في ولاية هاتاي التركية، نجم النجم، إنّ “منع الأمهات في دُور الأيتام من العمل وممارسة الحياة بشكل طبيعي، لا يسبب لهن فقط الشعور بالعجز المادي وتلبية أساسيات الحياة، إنّما يؤدي بهن الى عدم القدرة على اتخاذ القرار وعدم الاستقلالية، إضافة إلى حجز حريتهن والتهديد والخطر الدائم والخوف من المستقبل والمجهول وتدني الذات وعدم الثقة بالنفس”.
حسب النجم فإنّ كلّ هذه الأمور قد تكون سبباً لظهور العديد من الضغوط والاضطرابات النفسية كالقلق والاكتئاب والأرق ومشاكل النوم والوسواس القهري، والتي تنعكس على الحياة الاجتماعية على شكل انسحاب اجتماعي ونظرة سلبية للمجتمع، وعلى الحياة الأسرية كممارسة أساليب تربوية خاطئة.
“إن ما يحدث يعتبر انتهاك موصوف لحقوق المرأة بكل المعايير”، تقول الناشطة والمدافعة عن حقوق النساء، لبنى القنواتي، وتضيف إنّ “الإقامة في هذه الدُور تشبه الإقامة في السجن”، وإنّه يجب إعادة النظر بهذه القوانين أو وضع أخرى بناء على احتياجات النساء وأن يتم دعمهن بطريقة تحفظ كراماتهن وكرامة أطفالهن وتسمح لهن بتطوير أنفسهن.
أطفال دون أمهات
في واحدة من دور رعاية شمال غرب سوريا، تعيش فيه النساء لوحدهن في شروط قاسيّة، ويُبعد أيّ طفل تجاوز عمره الثانية عشر عن عائلته. وبحسب شهودٍ قابلناهم، فإنّ الأطفال يُحوّلون إلى مخيم آخر مخصص للأطفال الأيتام فقط أو يتم تجنيدهم في الفصائل العسكريّة المتواجدة في حلب وإدلب، وفي حالات أخرى لا يبقَ للأطفال إلّا خيمة في إحدى المخيمات المنتشرة في المنطقة.
تحصل بعض دور الرعاية على تمويل من جهة خليجية (لم نستطع تحديدها بدقة) بشكل غير رسمي، وتشترط هذه الجهة عدم تواجد أيّ طفل ذكر بعد بلوغه الثانية عشرة من عمره.
استطعنا مقابلة (ب. ص) وهو عنصر في فصيل عسكري مسلّح ناشط في شمال غرب سوريا. حيث أكّد لنا وجود أطفال في سن الخامسة عشرة ضمن فصيله المُسلّح. وبحسب هذا العنصر فإنّ أولئك الأطفال قد قدموا طلباً للانضمام إلى الفصيل بهدف الحصول على المأوى والراتب الذي سيُمنح لهم.
يقول (ب. ص) إنّهم الأطفال يُكلّفون في البداية بالمهام السهلة كإعداد الشاي أو الحراسة أو الخدمة اليومية وحضور بعض الدورات التدريبيّة، ومن ثمّ ينضمون إلى صفوف المقاتلين بعد أن يُجهزوا لحمل السلاح.
تقول الناشطة والمدافعة عن حقوق النساء، لبنى قنواتي، إنّ دور الرعاية هذه، ومقابل تقديم خدمة السكن والغذاء “تخلق عدّة ظواهر وسلوكيات مخيفة، مثل التشجيع على عمالة الأطفال واستغلالهم جنسياً وتجنيدهم”.
نضال الأمهات
بسبب رفض الأمهات الاستجابة لشروط الداعم بفصل أطفالهن عنهن، وبعد الاعتراض الجماعي على هذه القوانين تدخلت وزارة التنمية في إدلب، التابعة لحكومة الإنقاذ، وهي الجهة المسؤولة بشكل مباشر عن إدارة مخيمات المنطقة، وارتأت دمج المخيمات المخصصة للأرامل بالمخيمات العادية، والتي يُسمح فيها بإقامة كلّ أفراد العائلة بغض النظر عن أعمارهم.
بحسب مصدر خاص (رفض التصريح عن اسمه أو مكان عمله) في شمال غرب سوريا، فإنّ وزارة التنمية في إدلب قامت بدمج مخيمات الأيتام والأرامل بالمخيمات العائلية، لأنّه وبحسب شروط الداعمين والممولين يتم فصل الأطفال عن عائلاتهم، وتصبح الأمهات بين خيارين، “فإما أن تضحي بالإقامة المجانية والخدمات المقدمة في المخيم مقابل البقاء مع ابنها، أو أن تضحي بمستقبل ابنها مقابل تأمين حياة بقية أفراد العائلة”.
تقول لنا إحدى النساء المقيمات في أحد “المخيمات العائليّة العشوائيّة” والذي كان مخيمًا للأرامل فقط سابقًا، إنّ القرار الأخير بدمج المخيمات التي كانت مخصّصة للأرامل مع المخيمات العائلية هو “قرار صائب من أجل إنقاذ مستقبل الأطفال”.
لكن وبحسب مشاهداتنا، فإنّ هذا القرار لم يؤثر على وجود العديد من المخيمات العشوائيّة التي تتبنى سياسة فصل الأطفال الذكور عن أمهاتهم. تنتشر هذه المخيمات بطرق غير رسميّة، لذلك كان من الصعب علينا الوصول إلى إحصائيات رسميّة دقيقة حول أعدادها وأعداد المستفيدات منها، والذي نقدّره بالآلاف.