لجأت إلى قرية معزولة.. فهل هذا هو الحل؟!
حماية للنساء أم عزل لهنّ
يبدأ يوم هناء باكرا، فهي تقوم في الصباح الباكر بصنع الخبز، وتربية المواشي والعناية بالخضروات التي زرعتها في بهو منزلها، وذلك في قرية “جن وار” المخصصة للنساء في ريف مدينة الدرباسية أقصى الشمال الشرقي لسوريا. لا شك أن لهذه القرية ميزاتها الكثيرة، لكن ماذا عن وجود النساء والأطفال بعيدا عن المجتمع، ما آثار ذلك؟ هنا حكاية هناء وتجربتها في تلك القرية.
(تنشر هذه المادة بالتعاون والشراكة بين مؤسسة شبكة الصحفيات السوريات وحكاية ما انحكت)
ريحان جميل
اسم مستعار لصحفية مقيمة في مدينة القامشلي
بعينين حالمتين تراقب هناء الخلف (40 عامًا) أطفالها الثلاثة وهم يلهون أمامها دون أن يعوا المخاطر التي أوصلتهم لما هم عليه الآن، في قرية JIN WAR, أي “موطن المرأة” أو “جن وار”، وهي القرية المخصّصة للنساء فقط.
هناء المنحدرة من مدينة عامودا شمال شرقي سوريا، كانت ضحية توسع الحرب وتمددها، خاصة بعد موت زوجها إثر مرض ألمّ بقلبه، فوجدت نفسها وأولادها، محاصرة بين براثن الفقر والجوع، حيث تقول لحكاية ما انحكت: “بعد وفاة زوجي، لم ألقَ أية مساعدة من أهلي وأهل زوجي، لأنهم يعانون كذلك من صعوبة الوضع المعيشي، الأمر الذي يمنعهم إعانتنا”.
هنا في تلك القرية، يبدأ يوم هناء باكرا، فهي تقوم في الصباح الباكر بصنع الخبز، وتربية المواشي والعناية بالخضروات التي زرعتها في بهو منزلها. وهي تؤكد لنا أنها مكتفية في سكنها الجديد “هنا في موطن المرأة لا أحتاج إلى أي شيء، وأطفالي كذلك”،
ولكن كيف وصلت إلى هنا؟
بدء المعاناة.. لا عمل
بعد وفاة زوجها سكنت هناء مع أطفالها الثلاثة في بيت للأجرة بمقدار شهري يبلغ (25) ألف ليرة سورية, ولكنها لم تتمكن من دفع أجاره، كونها لم تكن تملك أي دخل مادي. وحين قررت العمل، لم تتمكن من إيجاد العمل المناسب لها بسبب عدم امتلاكها أي شهادة أو مهنة تخوّلها العمل.
ففي مناطق شمال وشرقي سوريا، التي تحكمها الإدارة الذاتية الديمقراطية منذ مطلع العام 2014، تعاني هناء مع مثيلاتها من النساء اللواتي لا يمتلكن شهادات علمية من مشكلة عدم الحصول على فرص عمل تساعدهن لإعالة عوائلهن، بالإضافة أنها لم تتلقَ أية مساعدة من المنظمات الإنسانية العاملة في المنطقة، فأثقلت الديون كاهلها، وبات تأمين لقمة العيش، لها ولأولادها صعبا، فلم تستطع تلبية متطلبات أبنائها الثلاثة، وتأمين احتياجاتهم اليومية. فكان الحل الوحيد المتاح أمامها هو الرحيل إلى قرية “جن وار” التي تأسست حديثا.
قرية “جن وار”.. للنساء فقط؟!
تأسست القرية أواخر العام 2018 في ريف مدينة الدرباسية أقصى الشمال الشرقي لسوريا. وهي تتألف من (50) مبنى، خصص منها (30) للسكن، والباقي موزعة ما بين فرن ومدرسة ومستوصف ومستودع وأكاديمية تعليمية ومقر إداري, وتسكنها حالياً (10) نسوة برفقة أطفالهن البالغ عددهم (17) طفل وطفلة.
تشرح المشرفة على القرية، زينب سليم، لحكاية ما انحكت سبب بناء هذه القرية بالقول: “تعاني المرأة بعد الحرب الدائرة منذ عام 2011 من مشاكل وضغوطات، وظلم كبير في مناطقنا، وفي بسوريا بشكل عام، لذا قرر مؤتمر ستار (منظمة نسائية تأسست عام 2005، تهتم بشؤون المرأة في شمال وشرقي سوريا) بالتعاون مع كلية علم المرأة في الحسكة العمل على إيجاد مكان خاص بالنساء المعنّفات، أو الراغبات في العيش بعيداً عن الظلم”.
عندما سمعت هناء بقرية “جن وار”، قررت أن تخوض تجربة العيش فيها، حيث تقول لحكاية ما انحكت: “بقي طفليّ أيهم البالغ من العمر (13) سنة، وعبد الرحمن البالغ من العمر (10) سنوات، من دون دراسة، وتراكمت الديون، وازدادت مصاريفهما، ولم يكن لي أي معيل، لذا لجأت إلى “جن وار” فكانت الملاذ الأفضل لي”. علما أن جميع ساكنات القرية هن من النساء اللواتي توفي أزواجهن، والمطلقات، واللواتي يعانين من الظلم والحرمان الاجتماعي.
وصفت هناء تجربتها في القرية لحكاية ما انحكت بالإيجابية، وقالت: “أشعر بأنني هنا ضمن مجتمع طبيعي يمكن العيش فيه بأمان، حيث نعمل ونزرع ونتلقى الرواتب من مجلس القرية ونذهب كل أسبوع للنزهة ونذهب إلى سوق المدينة لشراء حوائجنا”.
وتابعت قائلةً: “أشعر بالارتياح لأن هذه القرية وهبتنا حياة كريمة بعيدة عن الذل وضمنت لأولادي التعليم والرعاية الصحية التي كانوا يحتاجونها”.
حياة سعيدة ولكن؟
رغم التفاؤل الذي كان ظاهراً على وجه هناء، لكن تبين فقدها لحياتها القديمة حيث قالت: “ولكنني اشتاق إلى أهلي وجيراني وأصحابي القدامى”.
تشكل القرية فرصة لهؤلاء النسوة لتأمين قوت يومهن، وإمكانية ذهاب أطفالهن للدراسة، إلا أنها ليست الحل الكافي لمثل هذه الحالات، فتأمين فرص عمل مناسبة لهن هي من أولى الأولويات التي تنهي مأساتهن، وذلك ضمن بقائهن في المجتمع، وليس عزلهن عنه، حتى يتمكنّ من العيش وتربية أطفالهن.
ثمة قوانين دولية تنادي بضرورة حماية النساء في مناطق النزاع، أبرزها القانون (1325) الذي أصدره مجلس الأمن عام 2000، لكنها لم تطبق إلى الآن في سوريا بشكل عام، ومنها مناطق الإدارة الذاتية, فلا القوانين المحلية أنهت مشكلة التمييز ضد المرأة ولا المجتمع ارتقى لدرجة رفع المظالم التي تنتجها العادات والتقاليد في وجه المرأة.
وكذلك، فإن منظمات المجتمع المدني، سواء تلك المختصة بشؤون المرأة أو التي تهتم وتختص بالمجتمع ككل، لم تفعل ما من شأنه إعطاء المرأة حقوقها، وتقتصر عملها على ندوات وورشات، لا تسمن ولا تغني من جوع.
وعلى الرغم من الحرية النسبية التي تتمتع بها المرأة في مناطق شمال وشرقي سوريا، والقوانين الرائدة التي أصدرتها الإدارة الذاتية بخصوص إزالة التمييز الحاصل ضد المرأة، وصدور عشرات القرارات الدولية الخاصة بالمرأة، إلا أنها ظلت حبراً على ورق ولم يطبق منها أي بند, لذا يجب على الجهات المعنية العمل لتطبيق القرارات الدولية التي تنص على حماية المرأة وتوفير حياة كريمة لها أثناء النزاعات والحروب، وما يتلوها في حالات السلم، فهي الوسيلة الأنجع لإعادة الدور الحقيقي لها في بناء المجتمع.
ضمن هذا السياق، تقول الناشطة المدنية، ناز حمي، لحكاية ما انحكت: “لا أتفق كثيرا مع النماذج التي تطرح فصل النساء عن المجتمع، لأننا عندما نتحدث عن أسس ديمقراطية مبنية على العدالة المجتمعية وتوازن في الأدوار الجندرية، فمن الصعب تحقيقها لطرف واحد (المرأة) دون وجودها وتفاعلها ضمن المجتمع مع الطرف الآخر ( الرجل)”. وتتابع أنه “من ناحية أخرى من الصعب التكهن بطبيعة تفهم الأطفال للمجتمع المحيط في حال عزلهم عن ممارسة الحياة الطبيعية القائمة على تفاعل وتكافل الجنسين في منظومة الحياة اليومية”.
الأثر النفسي…
تؤثر الحروب والنزاعات على الأسرة بشكل عام، لكن القسط الأكبر من الضرر يقع على عاتق النساء والأطفال, فالآثار الاقتصادية تكون مدمرة للأسرة ككل، أما النفسية منها، فإنها تتركز بشكل كبير بين النساء والأطفال، فمعاناة المرأة تكون مضاعفة في غياب الأب، لأنها تتحمل وحدها إعالة الأسرة، فيتعين عليها تأمين المستلزمات الأساسية لها، ولأطفالها، مما يجعل التأثير النفسي عليها مضاعفًا.
عن هذه المضاعفات النفسية، تقول الأخصائية النفسية، جوانة بركات، لحكاية ما انحكت: “مبدأ وجود قرية خاصة بالنساء، لهن جزيل الشكر ببناء هذه القرية بحلوها ومرها, ولكن للإنسان حدود للطاقة النفسية والجسدية. وكون المرأة في هذه القرية تتحمل مسؤوليات الأب والأم واحتياجاتها واحتياجات طفلها، سواء النفسية أو الجسدية, فهذا يزيد من متاعبها, ويؤدي إلى حدوث ضغوطات ومشكلات نفسية كثيرة (القلق, الخوف, الخجل,….), وأيضا اضطرابات نفسية (الاكتئاب, الوسواس القهري, الفوبيات,…), ومشكلات جسدية تؤثر على نفسيتها، وبالتالي تؤثر على نفسية الطفل، وبالتالي أيضا يحدث معه بعض المشكلات النفسية (الخوف والقلق والحزن,…),وبعض اضطرابات نفسية (اضطراب ما بعد الصدمة, رهاب الانفصال, التبول اللاإرادي,…)”.
وهي ترى أن “المرأة بحاجة إلى الرعاية والاهتمام والراحة النفسية والتقدير والعطف والتعبير عن مشاعرها والتفريغ عمّا في داخلها، وهي بحاجة إلى شريك يبادلها المشاعر ومسؤوليات المنزل ووضع حلول مناسبة ومشتركة لمشكلات مشتركة”، وذلك دون أن يقتصر الأمر على المرأة، بل تطال هذه المعاناة الأطفال أيضا “لأن الطفل بحاجة إلى الرعاية والاهتمام والعطف وتلبية احتياجاته الأساسية والراحة النفسية من الوالدين, حيث يستمد قوته النفسية والجسدية من الوالدين. ومع غياب الأب تمتد هذه الضغوطات النفسية إلى نفسية الطفل أيضا. لكل واحد منهم واجبات ومسؤوليات تجاه بعضهم وتجاه الطفل كلما اكتملت هذه العلاقة وكانت في مسارها الصحيح كلما تحسنت نفسياتهم (الأب, الأم, الطفل) وقلت هذه المشكلات والاضطرابات النفسية” وفق ما تقول بركات لحكاية ما انحكت.
إن تغيير الأدوار الاجتماعية وزيادة مسؤوليات هناء أدى إلى تغيير كبير في حياتها على الصعيد النفسي حيث تكون دائما تحت ضغوط نفسية مستمرة ومتعددة, فأصبحت أكثر انفعالية وعصبية ودائمة التفكير بماضيها, وعندما تفكر بمستقبل أطفالها، تشعر بالخوف والضياع في كثير من الأحيان حيث تقول هناء: “كنت أماً لثلاثة أطفال ولكن بعد وفاة زوجي اضطررت لأن آخذ دور الأب والأم لأطفالي مع استحالة تعويض أطفالي عن أبيهم, زادت الضغوط على عاتقي فتغيرت من امرأة هادئة إلى امرأة عصبية وانفعالية لأتفه الأسباب، وعندما أفكر بما سيحل بأطفالي ومستقبلهم أشعر بالخوف والضياع”.