لماذا لم يذكر التاريخ الفنانات العظيمات؟

فاديا عفاش

مرت قرون من كراهية النساء حجبت ذكر أي فضل لهن في بناء التاريخ الإنساني، حيث اقتصر دور المرأة وفقاً للسرديات التاريخية المهيمنة على مساندة الرجل والوقوف إلى جانبه. هذا التغييب لدورها هو انعكاس لرؤية المجتمع الذي أنكر عليها جهودها وفضلها في جوانب الحياة الشتى. فأضحت المرأة نفسها ترضى بما يقسمه لها مجتمعها دون التفكير بالمطالبة بحقها والاعتراف بفضلها في المساهمة في أي عمل كان. باتت المرأة التي تطالب بذكر اسمها والاعتراف بعملها نشازاً.

ما حل بالنساء السوريات مؤخراً جعلني أراجع ليس فقط تاريخ هذه الممارسة فحسب، إنما دفعني لدراسة سلوك النساء فيما حولي بما في ذلك سلوكي الذاتي. كفتاة وفنانة سورية تأثرتُ بما فرضه السلوك العام في مجتمعي، فأجحفتُ بحق نفسي مراراً دون أي إدراكٍ مني أن من حقي أن أطالب بالاعتراف بجهودي وإنجازاتي. أذكر أنني لم أهتم عندما كنت أعمل جاهدة لإنجاز لوحاتٍ من الفن التشكيلي بالتوقيع عليها؛ فلم أكن أعي حينها أهمية التوقيع على أعمالي وأن أعتز بما أنجزت. كنتُ أعمل لمجرد متعة العمل ذاته، حتى أثناء الدراسة ضمن مجموعات من الطلاب لم أكن أمانع بالعمل أكثر من زميلي الشاب رغم تقاسمنا نفس علامة المشروع النهائية. لكن تجربة اللجوء في الولايات المتحدة الأمريكية التي مررت بها والعيش في مجتمع مختلف جعلني أقارن بين سلوك المرأة وتعامل المجتمع معها في كلا المجتمعين الأمريكي والسوري.

أصبحتُ أدرك أن ما اعتدت عليه هو إجحاف بحقي، وبدون أن أطالب بالاعتراف بحقي في عملي لن أستطيع التقدم والعيش في مجتمع جديد، لقد ذقتُ مرارة تجربة اللجوء، لكنها علمتني كيف أنصف نفسي التي غُبنت لعقود. لاحظتُ أن المجتمعات الغربية قد بدأت بتغيير ما درجت عليه سابقاً للخروج من عصور اعتادت على تنحية دور المرأة. حيث تم تبني نظام اقتصادي عالمي جديد فرض طريقة جديدة في التعاملات من خلال ابتكار مفهوم يسمى “the credit” أي مفهوم الائتمان حيث يسعى أفراد هذا المجتمع لتجميع نقاط تدل على إنجازاتهم أو التزامهم بالقوانين ويعطي مؤشراً على مدى أمانتهم لكي يثبتوا من خلال هذا الرصيد من النقاط التي جمعوها في أي مجال كان اقتصادياً أو دراسياً أو في مجال العمل أنهم أهل للثقة أو أصحاب فضل في بناء مشروع ما وذوي خبرة في مجال آخر. هذا المبدأ الجديد في التعامل غيّر من سلوك المرأة في هذه البلاد فبدون أن يملأ الشخص رصيده بنقاط تدل على أهليته وقدراته لا يستطيع أن يعيش في هذا المجتمع. لذا فالمرأة في هذه المجتمعات المتطورة تسعى بشكل طبيعي للمطالبة والاعتراف بفضلها في المساهمة في أي عمل كان، لكن رغم هذا التطور مازالت المرأة وفقاً لبحوث شتى لا تحسب لنفسها الفضل كما يحسبه الرجل، فما زالت المهمة الأصعب لها هي الحصول على الفضل في العمل الذي تقوم به، خاصة عندما تعمل لخدمة الأسرة أو في مجموعات.

في دراسة أجرتها ميشيل هاينز عن مفهوم الائتمان\credit (الفضل في إنجاز العمل) قالت “لقد أعطت النساء الفضل لزملائهن من الرجال أكثر مما أعطين لأنفسهن، فقد أبخسن حقهن من الائتمان\credit (الفضل في إنجاز العمل) فإذا لم يكن دورهن في تحقيق نتائج الأداء أو المهمة التي قام بها الفريق واضحاً بشكل لا يمكن دحضه لا تطالب النساء بأي فضل في العمل”. وفقاً لهذه الدراسة فإن هذه الظاهرة تكون أقل عندما كانت النساء تعملن مع نساء أخريات. وعند مقارنة هذه النتيجة مع مجتمعاتنا العربية نجد أن أمام المرأة العربية طريق أطول لتصل فقط لما وصلت إليه مثيلتها في العالم الغربي. رغم أن المرأة الغربية لم تحقق بعد العدالة الكاملة في المطالبة بحقها، ووفقاً لدراسات متعددة ما زالت متأثرة بشكل أو بآخر بالموروث الذي يحد من شأنها ويشوه نظرة المجتمع إليها ونظرتها لذاتها ويمنعها من المطالبة العادلة بالفضل فيما تساهم به.

لم تتعرف المجتمعات العربية بشكل عام بعد على مفهوم الائتمان\credit (الفضل في إنجاز العمل)، والمرأة بشكل خاص لم تعتد المطالبة بحقها في الفضل في إنجاز الأعمال التي تقوم بها. عمقت المأساة السورية هذا الاجحاف الذي يطال المرأة وزادت من أعبائها، وفي المقابل زاد الظلم الذي يقع على المرأة حيث بات جهدها الجبار خفي لا يعترف به أحد. فنتيجة الظروف الصعبة باتت المرأة في كثير من الأحيان هي المعيل الوحيد للأسرة، لكن كل هذه الجهود التي تقوم بها المرأة تبدو غير مرئية في عين المجتمع حيث لا تطالب المرأة بالاعتراف بأي فضلٍ لها فيما تبذله من جهدٍ، خاصةً ما تبذله في سبيل إنقاذ عائلتها.

لاحظتُ من خلال معايشتي لمجتمع اللجوء أن المرأة أكثر مرونة من الرجل في التأقلم مع الظروف الجديدة؛ فهي قد تفعل المستحيل وتقوم بأي عمل مهما كان صعباً ومردوده قليل بعكس العديد من الرجال الذين لا يرضون بأي عمل مهما كانت ظروف العائلة مريرة. لقد سمعتُ مراراً وتكراراً من كثير من الرجال عبارة (أنا لا أعمل إلا في اختصاصي)، لكني قلما سمعتُ هذا من النساء اللواتي يعملن بصمت لتأمين لقمة العيش لأطفالهن. إن الاجحاف الحقيقي بحق المرأة هو نكران كل ما تفعله وعدم الاعتراف بفضلها في إنقاذ عائلتها، فهي سر الاستمرار في الحياة واليد الخفية التي ما زالت ترسم لوحة الحياة في زمن الموت، علّها تدرك مثلي يوماً ما أن من حقها أن تُدرج توقيعها على تلك اللوحة وهي مرفوعة الرأس.