لمى راجح
عندما نتحدث عن الغوطة الشرقية أيام الحصار، سيتذكر العديد منا ما قامت به النساء، من ناشطات ومحاميات وطبيبات وعاملات في الشأن العام، في سبيل توصيل أصواتهن ونقل ما كان يحصل في الغوطة الشرقية، سيما في الأشهر الأخيرة، وفي ظل الهجمة العسكرية التي شنها النظام السوري وحلفاؤه الروس، واستخدامهم كافة الأسلحة بما فيها المحرمة دولياً ضد أهالي الغوطة.
كان من الملفت إصرار العديد من النساء على نقل الواقع في ظل الحصار والقصف المتواصل وعدم توفر الانترنت إلا بشق الأنفس، وكأنهن أصبحن مراسلات حربيات إن صح التعبير، يستخدمن أدوات وبرامج بسيطة مثل “الواتس آب والماسجنر والتوتير” في سبيل نقل الواقع أو من خلال الكتابة للمواقع الإلكترونية والمدونات، بالإضافة للتواصل مع الصحفيين والإعلاميين والناشطين والحقوقيين بهدف تسليط الضوء على مجريات الأحداث في الغوطة الشرقية ووضع المدنيين بشكل عام، إذ بلغ عددهم قبيل اقتحام النظام السوري للغوطة ما يقارب 400 ألف مدني وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة.
ربما قد يستغرب البعض لماذا أكتب اليوم عن الغوطة الشرقية بعدما سيطر النظام السوري عليها وهُجّر معظم أهلها، ولكن من الضروري أن نواصل توثيق ما حدث حتى لا تضيع جهود النساء سُدىً، تلك النساء اللواتي خاطرن بحياتهن لكي يستطعن فقط الاتصال بالإنترنت وإرسال رسائل صوتية أو تنزيل منشورعلى الفيس بوك لنقل واقع الحياة اليومية في الغوطة. أكتب هذه المادة أيضاً كي تحفظ الذاكرة السورية الواقع الذي عاشه المدنيون في ظل اشتداد الهجمات العسكرية آنذاك والتهجير الذي أعقب ذلك، وواقعهم اليومي في الأقبية التي لم تكن مخدمة ولا ترتقي لأن تتناسب مع أدنى الاحتياجات الإنسانية، إذ يكفي أن تشكل الملاجئ وحدها انتهاكات بحق الإنسانية عندما يجبر أهالي الغوطة للنزول والمكوث بها هرباً من الموت.
نحن شعب لا يعدم وسيلة
هبة (اسم مستعار) من أهالي الغوطة الشرقية، عمرها 35 عاماً، كانت تعمل مع إحدى المنظمات الإنسانية، وقد تعرضت للتهجير من منطقتها وانتقلت للعيش في شمال سوريا، تؤكد أن الكثير من الناس أبدوا استغرابهم كيف يمكن لأهالي الغوطة الشرقية استعمال الإنترنت في ظل الحصار، وتتابع: “يسألني الناس أنه كيف أنتم محاصرين بس عندكم انترنت.. ودائماً أجاوب أنه نحن شعب لا نعدم الوسيلة.”
استخدم أهالي الغوطة في فترة الحصار أجهزة تعمل على التقاط الإنترنت من أبراج البث الرئيسية أو من خلال تركيب الإنترنت الفضائي، واستخدام أجهزة تدعى “النانو” وهو مقوي لشبكة الـ WiFi، وكثيراً ما تعرضت هذه الأجهزة للقصف من قبل النظام السوري، بالإضافة لانتشار بطاقات الإنترنت، التي تُوفرها أجهزة النت الفضائية، وتكون لديها حزمة واسعة من الانترنت.
كما عمدت النساء إلى اللجوء لمقاهي الإنترنت التي توفرت في تلك الفترة، إلا أن ذلك لم يخلُ من مضايقات كمحاولات كتيبة الحسبة التابعة لجيش الإسلام منع النساء من دخول مقاهي الانترنت التي شكلت مُتنفساً لهن خلال عام 2015.
المخاطرة بحياتهن لنقل الواقع
هل لك أن تتخيل نفسك وأنت تقف على حافة الطريق تسمع صوت الطائرة، وهي تحلق فوق رأسك وأصوات القصف لا تهدأ، ومن الممكن بأي لحظة أن تسقط القذيفة فوق رأسك، ومع ذلك تحاول أن تلتقط شبكة الإنترنت بهدف إرسال تسجيل صوتي عبر “الواتس أب” أو تنتظر الثواني تحت القصف لكي يعطيك “الفيس بوك” إشارة بأنه قد تم نشر “البوست” الخاص بك!
هذا ما كانت ليلى البكري، والتي تبلغ من العمر 26 عاماً متزوجة ولديها طفلة عمرها سنتين ونصف، تشعر به في كل مرة كانت تغادر القبو، وتخرج للشارع بهدف التقاط الإنترنت وتقول: “في مرة كنت عم حاول شبك على النت وكان في قصف راجمة صواريخ.. أثناء ذلك نادتني بنتي.. واضطريت روح لعندها.. فنزلت القذيفة ناح البيت واتهدم جزء من بيتي وصار في كتير ضرر.. كان الفرق بيني وبين القذيفة ثواني معدودة.. كنت رح إتصاوب.” انتقلت ليلى للعيش مع طفلتها في إحدى الملاجئ، وتمكنت من تحويل صفحتها الشخصية على “الفيس بوك” إلى منبر تنقل عبره إحساسها ومشاعرها المختلطة وخوفها، وواقع العيش في الملاجئ، وجعلت من يتابع صفحتها يستنشق معها رائحة الرطوبة هناك، وكثيراً ما نشرت قصص تتحدث عن مشاعر طفلتها وخوفها من القصف وطريقة فهمها للأمور.
ليست ليلى وحدها من حولت صفحتها الشخصية لمنصة تنقل واقع الناس في الغوطة الشرقية، بل لجأت العديد من النساء لاستخدام منصات التواصل الاجتماعي لنقل مجريات الهجمات العسكرية وأحوال المدنيين في الملاجئ والأقبية، بالمقابل دأبت العديد من الصفحات المتنوعة سيما التابعة للمجتمع المدني في مشاركة المنشورات وترجمتها لعدة لغات بما يخلق الفرص لنقل منشوراتهن بشكل أوسع، وتقول ليلى:
“حسيت أنه بدي اكتب يللي عم يصير وما لازم نسكت عنه.. فبداية كتبت بوست صغير عن الشي يللي عم حسه أنا وبنتي في ظل القصف والحصار.. وقعدة الملجأ يللي العالم ماكان يستوعب أو يفهم شو يعني أقبية.. بدأت بالفترة الأخيرة اكتب عن شعوري وشو عم يصير حولي في الأقبية وأوصف للعالم يللي برا شو يعني قصف وطيران.. وشو يعني تمشي أثناء القصف وتنتقل من بيت لبيت وظروف القبو وكيف كنا عايشين وكيف كنا نطبخ وشو عم ناكل.. حاولت أعطي صورة كاملة عن يللي عم يصير معنا.. لقيت كتير تفاعل على منشوراتي وكان كتير بيسعدني بهداك الوقت.. وبيعطيني دفع لحتى كمل..”
كما حاولت ليلى أن تنقل واقع النساء في الملاجئ الذين شعرن أنهن وحيدات، فشرحت لهن أن الانترنت هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تساعدهن في توصيل أصواتهن، وعدم السكوت عن انتهاكات النظام السوري حسب قولها. وكانت ليلى قبل أن تخرج للشارع لالتقاط الانترنت توصي والدتها بطفلتها للاعتناء بها في حال تعرضت لأي مكروه حيث لطالما شعرت أنها ستتعرض للإصابة أو الموت.
أما بالنسبة لهبة فقد لجأت لاستخدام تطبيق “الواتس أب” من خلال إرسال التسجيلات الصوتية للمنظمة التي كانت تعمل معها كلما سنحت لها الفرصة لالتقاط شبكة الانترنت، حيث استخدمت التطبيق لوصف واقعها وطبيعة الحياة في الملجأ، وكثيراً ما كانت أصواتها تترافق مع أصوات القصف. ففي إحدى المرات أرسلت هبة رسالة صوتية عبر “الواتس اب” قبيل اقتحام النظام السوري للغوطة، كانت تحاول أن تنقل إحساسها وخوفها، ولكن الصوت خانها لتكتفي بوصف الواقع الذي تعيشه، وتقول: “ما بعرف شو رح يكون مصيرنا.. وما بعرف إذا هي رح تكون آخر مرة بتواصل فيها.. بس أنا ما بدي موت ومابدي عيش تحت سيطرة الأسد.”
كذلك الأمر بالنسبة لبيان ريحان، عمرها 32 سنة، تعمل كرئيسة لمكتب المرأة في المجلس المحلي لمدينة دوما، ومسؤولة تواصل في منظمة “اليوم التالي”. عملت بيان على نقل الواقع المدني في الغوطة الشرقية عبر صفحتها الشخصية على “الفيس بوك” لتصبح صفحتها مُتابعة من قبل الكثيرين. استطاعت بيان تسخير كافة الوسائل بما في ذلك إنتاج ونشر فيديوهات وصور توثيقية وهادفة لكسر حاجز التعتيم الإعلامي الذي فرضه النظام السوري حسب قولها وتوضح بيان:
“كنت اضطر اطلع على الطابق الثالث بالليل على الأسطح ومقابل القناص.. كان في خطورة على حياتي حتى اقدر افتح النت والتقط الشبكة.. مع هيك اقدرنا ننقل معاناة أهالي الغوطة من قصف وحصار ومن خلال صفحتي نقلت تجربتي بشكل كامل وكانت صفحتي متابعة ونقلت عبرها تفاصيل أحداث كالمجازر وصور بسيطة التقاطنها على موبايلتنا.”
دور منظمات المجتمع المدني
شكل الانترنت فسحةً أو بوابةً للعديد من النساء إلى العالم خارج جدران الغوطة الشرقية المحاصرة، ووفر لهن فرص عملٍ وتواصل في ظل الحصار الذي فرضه النظام السوري وفقاً لبيان ريحان التي توضح: “تربطني مع الانترنت قصص جميلة.. وعن طريقه كتبت مقالات وتواصلت مع صحفين وتعلمت وحصلت على عمل.” من جهتها تقول ليلى: “الانترنت مهم جداً لتوصيل صوتنا لأنه صوتنا بالغوطة ماكان مسموع وكتير كان مهمش من قبل الفصائل العسكرية الموجودة.. ومن قبل المتسلقين على الدين يللي طلعوا بفترة الحرب والحصار.”
بالمقابل كان هناك محاولات لبعض مؤسسات المجتمع المدني في دعم النساء وتمكينهن من خلال توفير خدمة الانترنت لهن وتوفير السلامة والحماية الرقمية لهن من خلال تدريبهن على كيفية الاستخدام الآمن للانترنت. فمثلاً عملت بعض المنظمات على توفير مقاهي الانترنت للنساء كمنظمة “النساء الآن من أجل التنمية”
التي وفرت مقهى انترنيت في منطقة حزة في الغوطة الشرقية. وأيضاً أقامت هذه المنظمات في مقاهي الانترنت تدريبات رقمية وفرص للتعلم عن بعد في ظل الحصار. وتؤكد بيان ريحان أنها عملت عندما كانت مديرة مركز الشام الحقوقي مع مشروع سلامتك للأمن الرقمي على توفير تدريبات توعوية للمدنيين في كيفية التعامل مع الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، ولكن يمكن اعتبار أن هذه الجهود لم تكن كافية، إذ لم تتوفر حملات توعوية تستهدف النساء على نطاق واسع، وبقيت محاولات منظمات المجتمع المدني عبارة عن تجارب متواضعة.