“الله لا يسامح اللي كان السبب” بملامح يملؤها الحزن وشفتان ترتجفان تبدأ أم الطفل علي المحمد حديثها عن فاجعة سقوط طفلها ذو الأربعة أعوام في أحد جور الصرف الصحي في مخيم الفجر، الواقع في منطقة إعزاز. ما يزال حذاء علي حتى اليوم طافياً على سطح الحفرة.
طوفان حذاء الطفل علي على سطح محتويات جورة الصرف الصحي شاهداً عما حصل معه – تم التقاط الصورة بتاريخ ١٨ أيلول ٢٠٢٣
لم يكن علي يعلم أنها آخر زيارة لخالته وأطفالها في صبيحة عيد الأضحى الفائت. تسلّل علي رفقة أخيه الأكبر دون علم أمهما ليقصدا مخيم نور الصباح للأيتام حيث تقطن خالته، ليلعبا في الملاهي التي تم إنشاؤها للأطفال هناك. لم يدرك علي حالة الحفرة الفنية ذات الغطاء المهترئ على الطريق الواصل إلى المخيم. أراد النظر داخلها واختبار مدى خطورتها، حالها كحال عدة حفر مشابهة منتشرة ضمن هذا المخيم الذي يقع بالقرب من قرية نور الصباح للأيتام ضمن مخيمات دير حسان في منطقة شمال غرب سوريا. تتحدث والدة الطفل مصطفى من المخيم نفسه بانفعال شديد عن نجاة ابنها من السقوط في إحدى الجور الصحية “عادة ما يثير فضول الأطفال اكتشاف أو رؤية الأشياء الغامضة أو غير المكشوفة لهم رغم خطورتها، ما يؤدي بهم لنتائج لا تحمد عقباها، إلا أن حادثة طفلي هذه المرة لم تكن من قبيل الفضول أو المغامرة إنما كانت أثناء تسابقه مع أبناء عمه للوصول لمنزل جدته، وقد نسي وجود حفرة جيرانهم المشتركة على زاوية إحدى الخيم عند التفاف الطريق الواصل لخيمتهم، حيث لم تتم صيانة غطاء الجورة هذه أيضاً”، تقطع حديثها بابتسامة متهكمة وتردف قائلة “حالها كحال خمسة عشر حفرة بحاجة إلى صيانة في المخيم”. تتساءل والدة علي “ترى كم من الأعوام سنبقى حتى تُقدَّم لنا الخدمات بالشكل الإنساني الصحيح، كتنفيذ مشاريع صرف صحي بطرق صحية؟”تشاركها الحديث إحدى صديقاتها التي التقينا بها أثناء الزيارة، وهي تقطن في مخيم أبناء القصير في دير حسان، “الوضع لدينا ليس أفضل حالاً، فالمنظمة العاملة في المخيم تقوم بشفط الجور، ولكن غالبية الناس تضع غطاء نايلون أو أغصان شجر على الحفرة الفنية وهو ما يعرِّض الجميع لخطر السقوط؛ إن لم يكن لدى الشخص معرفة بمكان الحفرة، عدا عن الروائح الكريهة وانتشار البعوض بشكل لا يطاق”.تم إنشاء هذه الحفر في مخيم الفجر مع كتل التواليتات المحدثة في المخيم من قبل منظمة أطباء بلا حدود قبل ثلاثة أعوام حيث عملت في المخيم آنذاك، ومن ثم انتقلت لمخيمات أخرى بحسب سكان المخيم، وتقوم منظمة المجلس النرويجي للاجئين NRC بتقديم خدمات المياه والإصحاح حالياً، ومن ضمن هذه الخدمات تفريغ جور الصرف الصحي باستثناء الجور التي تحتاج إلى صيانة.تتوزع جور أو حفر الصرف الصحي في أماكن مختلفة على امتداد مساحة المخيمات، وتشترك كل عائلتين أو ثلاث بجورة واحدة، فيما تتفاوت هذه الحفر بالنسبة لعوامل الأمان التي بنيت على أساسها، من حيث المساحة والعمق، إذ يبلغ عمق الحفرة مترين وبمساحة ما يقرب المترين أيضاً، وتكون على شكل خزان مربع من الحجارة التي تمسكها قطع الإسمنت، ولها فتحة علوية بمساحة ٦٠ سم مغطاة بقطعة حديدية رقيقة جداً متلفة في الغالب بسبب الصدأ الذي يأكل أجزاء كبيرة منها، والغرض الأساسي من هذه الفتحة سحب محتويات الحفرة.
ساعدوني سقط أخي
سقط علي في الحفرة دون أن ينبس ببنت شفة، روائح الغازات الخانقة بسبب التخمير والتفاعلات فيها حالت دون إنقاذه، على الرغم من محاولة حارس قرية نور الصباح الركض نحو أخيه الأكبر عندما سمعه يستنجد بمن حوله بصوت يملؤه الخوف والذعر “ساعدوني سقط أخي”، شجاعة الحارس المدعو أبو عبيدة دفعته لعدم التفكير بأي شيء سوى إنقاذ الطفل، فأسقط جسده الطويل ذو المتر والتسعين سنتيمتراً داخل الحفرة، فأغرقت محتوياتها جسده النحيل، حسب وصفه، وتمكن من انتشال الطفل برجليه مستعيناً بيديه ومجبراً نفسه على عدم الانحناء خوفاً من الغرق والموت اختناقاً في بضع دقائق. “لحظات قصيرة لكنها كانت أكثر طولاً وأشد ثقلاً بوقعها، بل وأشبه بطلوع الروح” بهذه الكلمات وصف الحارس محاولته إنقاذ الطفل، “كانت الروائح على وشك أن تفقدني السيطرة على نفسي لانعدام الأوكسجين، إلا أنني نجحت في الخروج مع الطفل بما تبقى لدي من أنفاس، لكننا فشلنا جميعاً بمحاولاتنا لإنقاذه من الموت بعد أن تم إسعافنا فوراً إلى المستشفى، حاول الكادر تقديم كل ما بوسعهم من خدمات وتنفس اصطناعي للطفل دون جدوى”.عانى أبو عبيدة من بعض الجروح والالتهابات والتقرحات الجلديّة بعد هذه الحادثة. “يعتبر غاز النشادر وأول أوكسيد الكربون الذي يتصف بتركيزه الثقيل بالأسفل من أقوى الأسباب لفقدان التنفس، هذا الغاز شديد الإرتباط بالهيموغلوبين الذي يتسبب بتلف الأعصاب والكليتين بالإضافة لامتلاء صدره وبطنه من محتويات الحفرة (القاذورات) وهي وحدها كفيلة بموته بهذه السرعة”، يشرح الطبيب أحمد الحسن المختص في الأمراض الصدرية الأسباب التي أدت إلى وفاة الطفل علي.
الجرب وأمراض أخرى
تُصاب يمنى (٢٢ عاماً وتسكن في مخيم دير حسان) بالحرج عندما تسألها جاراتها إن كانت قد شفيت من الجرب في المخيم التي تسكنه مع زوجها. انتقل إليها المرض وهي لم تكمل الشهر الثالث من زواجها عن طريق عدوى من أحد أفراد عائلة زوجها التي تشاركهم المأكل والسكن، تقول يمنى إنّها لا تستطيع النوم أحياناً “بسبب هيجان الحكة في أجزاء من جسدي، وتكون أشدها في ليالي الصيف الحارة. أقوم بصب الماء على جسدي علّه يطفئ حرارة التهيج، وما ألبث أن أغفو حتى أسمع بكاء ابنة أخ زوجي الصغيرة في الخيمة المجاورة تتألم من تآكل الجرب لجسدها الصغير في ظل عجز والدتها عن تقديم أي نوع من الأدوية”.
تدفق مجرى الصرف بالقرب من مخيم الميدان – التُقطت الصورة بتاريخ ١٩ تشرين الثاني ٢٠٢٣.
يؤكد الدكتور محمد الزعبي مدير النقطة الطبية في مخيم قرية نور الصباح للأيتام على تزايد حالات الإصابة بمرض الجرب حيث بلغت الإحصائية خلال ثلاثة شهور (تموز- أيلول ٢٠٢٣) أكثر من مئتي إصابة جرب في المخيم، وحوالي مئة إصابة بأمراض جلدية أخرى كالتحسّس والليشمانيا. أما عن الخدمات الطبية المقدمة لهذه الإصابات فهي “مرهونة بإمكانية النقطة الطبية والعلاج المتوفر”، وقد يتم تحويل إصابات الليشمانيا إلى مراكز أخرى لمعالجتها، إلا أن بعض إصابات الجرب لا تستجيب للأدوية المتوفرة، ناهيكم عن بعض الحالات التي تتم معالجتها بشكل كامل إلا أن العدوى تعاودهم مرة أخرى بسبب انتشار هذه الأمراض ونقص الأدوية في المراكز.حسب الصيدلانية ربا المصطفى فالجَرَب “هو مرض طفيلي معدٍ بشدّة، ينتج عن سوس ناقب صغير يسمى القارمة الجربية، ويسبب حكة جلدية شديدة في المنطقة التي ينقب فيها السوس، ويمكن أن ينتقل بسرعة من خلال المخالطة اللصيقة عند العيش في المسكن نفسه، كما يمكن أن ينتقل عن طريق ملامسة الأدوات الشخصية للمريض مثل الملابس وأغطية السرير”.
“بتردد كتير قبل ما أتعالج عند دكتور”
تعبر عن ذلك يمنى بخجل وهي تحك يدها اليسرى بأظافر يدها الأخرى دون توقف، “وجود الجرب بأسفل بطني وبصدري بخليني أتردد كتير بإني أتعالج عند دكتور”.
لا تتوفر في النقاط الطبية الموجودة في منطقة مخيمات دير حسان طبيبة جلدية، كما يندر وجود أطباء جلدية في المراكز الصحية والمشافي المجانية، مما يدفع المصابين ممن تتوافر لديهم القدرة المادية على دفع كشفية الطبيب التي تبلغ ٧٥ ليرة تركية (ما يعادل ثلاث دولارات أمريكيّة تقريباً) إلى الذهاب للطبيب الخاص في مدينة الدانا، إضافة لشراء الدواء على حسابهم الخاص، ومن لا يملك قدرة العلاج الخاص فله أن يصارع المرض دون علاج أو أن يذهب إلى طبيب داخلية، في حين تزور النساء في غالب الأحيان طبيبة نسائية في المشافي العامة لتشخيص المرض والحصول على الأدوية في حال توفرها مجاناً في المراكز والمشافي العامة، وذلك في ظل توقّفُ الدعم عن أكثرَ من ١١ نقطةً طبيّة ومشفى ومركزَ رعاية، وانتشارُ الأمراض الجلدية بحسب “منسقو استجابة سوريا“.
تقول الصيدلانية ربا المصطفى إنّ “كثر هن النساء اللاتي يزورنني في الصيدلية الخاصة وأخبرهن بضرورة علاج مرض الجرب لتقليل العدوى وضبط انتشارها، منهن من يكون لديهن القدرة على شراء الدواء والعلاج، وأخريات يقمن بالسؤال عن سعر الدواء ومغادرة الصيدلية دون شرائه”. يبلغ ثمن علاج المريض المصاب بما يقارب سبعة دولارات أمريكيّة في حال التزام المريض بالأدوية بشكل متكامل، وهو مبلغ غير قليل بالنسبة للعوائل التي لديها أكثر من إصابة في ظل الأوضاع المادية الصعبة وقلة فرص العمل بحسب الصيدلانية.
سجّلت منظمة أطباء بلا حدود الدولية أكثر من ٥٧٠٠ إصابة بـ”الجرب الجلدي”، في مخيمات النازحين في ريفي إدلب وحلب، خلال أشهر الصيف الماضية ضمن موجة إصابات عالية ألمّت بمنطقة شمال غربي سوريا، في حين تسجّل المنظمة نحو ١٥٠٠ إصابة شهرياً عبر فرقها النقّالة.
لا يقتصر الأمر على مرض الجرب فحسب، حيث يعد وجود بؤر الصرف الصحي المكشوفة وعشوائية المجاري وتكاثر الحشرات الناقلة للأمراض مثل البعوض والذباب، بيئة خصبة لتكاثر وانتشار البكتيريا والفيروسات المسببة للآفات المعدية، مثل بكتيريا السالمونيلا المسببة لالتهاب الأمعاء وفيروسات التهاب الكبد وأوبئة أخرى كالكوليرا والتيفوئيد المنتقلة عن طريق الخضراوات والمياه، والتهاب الكبد الفيروسي المنتقل عن طريق اللمس.
“وقت تجيني هجمة الربو وخصوصاً بالصيف عندما ترتفع درجة الحرارة وبتهيج ريحة المجرور ما بيبقى أوكسجين بكل المخيم”، تصف عزيزة المحمد، الخمسينية والتي تسكن مخيم الميدان، معاناتها اليومية، وترجع ذلك إلى سكنها “على كتف النهر” الذي تشكل من تجمع مياه الصرف الصحي من مخيمات سابقة لمخيم الميدان، وتصب في الغالب هذه “الأنهار” من المياه العادمة المكشوفة في وديان قريبة أو بعيدة، وتتموضع الخيم بمكان غير بعيد على كتف المجرور أو ما يسمى بـ”نهر الصرف”، حسب سكان المخيم.
الأراضي والمواشي لها نصيبها من عشوائية الصرف الصحي
لا تقتصر الأضرار الناتجة عن عشوائية الصرف على السكان فحسب بل ينعكس ذلك أيضاً على الأراضي الزراعية المجاورة لهذه المخيمات، والتي يلجأ أصحابها لري مزروعاتهم ورعي أغنامهم من المياه المتشكلة من هذه المجارير نتيجة الافتقار للمياه النظيفة، مما يلحق أضراراً جسيمة بالتربة والمزروعات، كما أن زيادة منسوبها في فصل الشتاء يؤدي لغمر مساحات كبيرة من الأراضي أو الطرقات.
يعلل أصحاب الأراضي الزراعية المجاورة لمجاري الصرف ذلك لتوفير شراء المياه من الآبار، الأمر الذي يزيد من مرابح المزارع في ظل عدم إحكام رقابة الجهات المعنية على جميع أماكن جريان الصرف، وتوزع المزروعات قربها، يقول سليم العلي أحد المزارعين الذين يقومون بسقاية أشجار الزيتون من المجرور المجاور لأرضه: “وفرت شراء المياه من الآبار للسقاية وزادت أرباح الإنتاج من الزيت والزيتون”، إلا أنّه أشار إلى أن قسماً كبيراً من الناس ممن يعرف طريق سقايته لأرض الزيتون لا يرغب بالشراء مما يجنيه، متخوفين من حدوث أمراض تكون طريقة السقاية سبباً فيها.
في السياق ذاته يقول مازن الخليل أحد مربي المواشي بالقرب من مخيم الميدان إنّه “لا يوجد مراعي في المخيمات والمنطقة التي أسكنها، مما يجبرني على الرعي حول المجرى لوجود الأعشاب، وبالإضافة لعدم كفايتي من ماء الشرب بالمخيم، فاضطر لسقاية المواشي من المجرى في الغالب، مع العلم أن الأغنام تصاب أحياناً بالأمراض”.
من جانبه يشير الخبير الجيولوجي ثابت كسحة إلى أن “أضرار الصرف الصحي كبيرة على البيئة، ولها تأثير على الطبيعة الجيولوجية، وذلك بحسب المنطقة التي تكون فيها مجاري الصرف، فعندما تكون طبيعة الأرض صخرية يكون لها تأثير مباشر على مياه الشرب، مما يؤدي لارتفاع المعادن كالرصاص والنترات والنتريت والأمونيا في المياه. وفي ظل عدم مراعاة الناس لهذه النقطة يقوم غالبية الأشخاص بحفر آبار دون الأخذ بعين الاعتبار عمليات الرشح والتسريب من الصرف لمياه الآبار، والتي تؤدي بدورها إلى تلوث المياه بالإضافة لتأثيرها الكبير على المزروعات التي تسبب ارتفاع المعادن والمواد السامة والمسرطنة فيها. كما أن مادة الكادميوم التي تحتويها الخضار التي تسقى من الصرف الصحي تعتبر مسرطنة وتسبب أضراراً في الجهاز الهضمي وجهاز المناعة وضرراً في الرئتين والكلية”
سقاية اشجار الزيتون والمزروعات المجاورة من مجرى الصرف. التقطت الصورة بتاريخ ١١ تشرين الأول ٢٠٢٣.
يرى الكسحة أن الحل الأنسب لمعالجة هذه المشاكل هو إبعاد الآبار عن الصرف الصحي لأبعد نقطة، وأن يكون هناك تنظيم لمجاري الصرف وألا تكون عشوائية في المخيمات، ويشير أيضاً إلى أهمية إقامة نظام صرف صحي فعال ومناسب للتخلص الآمن من الصرف الصحي، بما في ذلك معالجة مياه الصرف وتكريرها وإعادة استخدامها، للحد من مشاكل الصرف الصحي المكشوف وآثارها على السكان.
دور المنظمات الإنسانية وتقييمها للواقع
بعد تواصلنا مع أكثر من منظمة عاملة في مجال خدمات المياه والصرف الصحي وخدمات النظافة والأقسام المسؤولة عنها في المخيمات استطعنا التواصل مع مهندسة رفضت ذكر اسمها أو اسم المنظمة التي تعمل بها. أوضحت لنا المهندسة الأسباب التي تعود لعشوائية الصرف قائلة إنّ “لكل منظمة سياسة وآلية معينة بالتنفيذ، فبعض المنظمات تقوم بإنشاء جور فنية وكتل تواليتات في المخيمات، وتكون بمواصفات مختلفة لأغطية الجور وأبواب التواليتات والمغاسل والإنارة وغيرها، ومن ثم تسليم المشروع لسكان المخيم بحيث يكون السكان هم المسؤولون عن متابعة أمور الصيانة وعدم إهمال الأعطال التي تتسبب بخطر على حياة الأشخاص، ولكن للأسف نواجه الكثير من الإهمال وعدم الاكتراث إلى حين وقوع المصيبة، في حين تقوم منظمات أخرى بتقديم خدمات سحب الجور وتفريغها ومتابعة جميع أنواع الصيانات مثل تسريب جورة، تركيب غطاء جورة، إنارة، قفل، صيانة صنبور في دورات المياه ومنها من تقوم باستلام كافة أنشطة المشروع عدا عن النشاط المتعلق بالصيانة، إذ تعتبر أي خلل في الجورة هو من مسؤولية صاحبها ولا يتم تفريغها حتى يتم صيانتها من قبل المستفيد.”