سلوى زكزك
تغيب في سينما ما بعد الحرب البوسنية الإيدلوجيا وتحضر فيها التجارب السابقة خاصة للنساء ومعاناتهن أثناء مجابهة الحرب وخساراتها المتعددة. تحضر في هذه السينما تفاصيل وقيم وخطوات العدالة الانتقالية وتجارب العبور. ليس مهماً إن كانت هذه السينما تتناول مواضيعها المختارة بعناية لتؤدي رسالتها بفنية عالية أو بمهنية فجة، المهم هو إعلان أن الحرب قد انتهت فعلاً، وعلينا عدم إفلات تلك اللحظة، وإعمال التذكر عمداً ولكل تفصيل لمساعدة تحقيق العدالة للضحايا ولذويهم وللمجتمع.
أناقش في هذه المقالة فيلمين (فيلم “درب حليمة” و فيلم “سر أسماء”) يتناولان جريمة القتل على الهوية وإخفاء مصير الضحايا وجريمة الاغتصاب الممنهج للنساء في الحرب البوسنية. فيلمان سينمائيان يؤكدان ضرورة تطبيق آليات العدالة الانتقالية عل كل مرتكب ومتورط بالحرب. تجربتان تضيئان فنياً وإنسانياً على كيف يمكن لسينما ما بعد الحرب في سورية رصد واقع النساء السوريات أثناء الحرب وما بعدها. هل ننتظر تلك السينما؟ أم ننتظر السوريات ليطلقن مسار ما بعد الحرب بحكاياتهن وبلغتهن وبعيونهن وعبر السينما.
فيلم “درب حليمة”
لا حروب مقدسة، لا حروب منتصرة، وحرب الأخوة يا أمي ليل بهيم وألم لا يبرد إلا باكتمال اللوحة، بانتهاء الحرب وبقاءك هنا معنا.
يروي فيلم “درب حليمة” حكاية دخول بعثة مفتشين عاملين في الأمم المتحدة لإحدى القرى البوسنية لكشف مصير وأسماء الجثث المدفونة في مقابر جماعية. يمكن القول أن أقل المشاهد تأثيراً في الفيلم هو مشهد فريق الأمم المتحدة المختص بجمع بقايا ضحايا الحرب البوسنية بعد انتشالها من المقابر الجماعية لتسليمها لذويها من أجل مراسم التشييع والدفن. يبدو هذا المشهد وكأنه تقرير إخباري مكرر على شاشة امتهنت نشر الوقائع بطريقة جافة وتقريرية خاوية.
لكنه نقطة الصفر، محكومون بالعودة للرواية، لحكاية الابن المقتول مع أبيه والمدفونان بمقبرة غريبة وبعيدة، هما الآن مجرد رقم في اضبارة من ملايين الأضابير. لن يعود الابن إلى الحياة، لن تحضنه أمه، فهو مجرد جمجمة وعظام متحللة، لكن العدالة تقول بأن التحول المصيري في حياة الأم وابنها سيكون عندما يتحول الابن من مجرد رقم إلى قبر بشاهدة، تحمل صورته وتاريخ ميلاده وموعده المعلن مع الموت.
أنتج فيلم “درب حليمة” سنة 2012 وهو من إخراج المخرج الكرواتي أرسين أسيتوجيك. مخرج كرواتي يخرج فيلما عن مجازر البوسنة! لعلها إحدى نقاط العبور نحو عالم بلا حروب!
و”درب حليمة” طويل ومعبد بالأشواك، لا تفجع ولا نحيب، انهيارات للجسد، وكأننا كما في كل تشييع هنا أو هناك، أو حتى في تلك المرات التي يكون التشييع فيها مجرد خبر أو ورقة، حيث ننسى الكلمات ونحصي عدد مرات الإغماء الطويل الذي أطاح بالأم، ونضيف (سقطت زوجته أو توقف قلبها أو تنفسها عشرات المرات)، الدمع هنا لا يكفي، والحزن واحد هنا أو هناك، الانكسارات نفسها، والخواء ذاته.
هذا الجسد لم يعد قادراً على الوقوف، لكنه يتعين على حليمة كما كل الأمهات أن تقف! أن تراجع مكاتب الأمم المتحدة واللجان المختصة، عليها أن تأخذ معها آخر كنزة ارتداها ولدها ورائحة عرقه راسخة فيها وربما إحدى شعرات رأسه مازالت عليها، لتكون الدليل على أن تلك الجمجمة له.
يا لرداءة اللغة ويا لعظمة اختراع الشيفرة الجينية، نقطة من دم الأم وانسياب متدفق لحزن مجلل بالحنين وبلحظات الحب الأمومي الصافي، تمنح الأم دمها ليحيا ابنها ولو على الورق، ولو ببضعة كلمات تثبت أن هذه العظام من ذلك الجبل الواقف على باب الغرفة التي تجتمع بها اللجنة، ليخرج أحدهم ويقول لها: لقد وجدنا ابنك، حضري له قبراً وتعالي لاستلامه.
يدور الفيلم في زمن ما بعد الحرب سنة 1998، ويتناول خمس سنوات من تعامل “حليمة” مع الشك بمقتل ابنها أثناء الحرب في سنة 1993. كي لا يقتلها الحزن قبل أن تجد رفات ابنها المتأكدة من موته، تنهض الأم بالمنزل، تعمل بالأرض، تزرع وتجني وتحيك الكنزات الصوفية لابنها الغائب قبل أن تدفنه في أرض العائلة حيث مفترق الطرق نحو حدود جديدة باتجاهات متعددة في بلد كان واحداً وصارت الحدود لغة بحد ذاتها. والقاتل معروف وعنوانه معروف، لكن الحرب خاسرة، والانتقام وهم لا يرد الجسد الطفولي لحضن الأم، لا نسيان ولا تسامح، لكن العدالة هي حدود القبر والوعد بأن حرب أخوة جديدة لن تشتعل بعد.
شخصيات الفيلم نساء قويات، حاضرات بقوة وفاعلات، وجود الرجال مجرد طيف في الذاكرة لأنهم إما راحلين أو معاقين أو منكفئين بعد حرب طويلة وقاصمة للظهر.
والنسوية هنا ليست مجرد حضور النساء بالجسد، بل هي القدرة على القرار، والاستمرار بقلع أشواك الحرب. هذه الروح الهشة بعد كل هذا الرحيل تقّوت، وتحاملت على الجراح ومشت نحو الأمام.
لم تكن حليمة في خلفية الحدث يوماً ما، لكنها كانت مغيبة عن القرار وعن دائرة القول والحسم، وهي الآن تباشر مهمتها دونما استكانة أو سقوط. لا ليخمد صوت الحرب وحسب، بل لترسم ملامح بدايات جديدة لحيوات قادمة ومستدامة.
فيلم سر أسماء أو Gravica Wins
يركز فيلم “سر أسماء” كما جاء على لسان بطلته على كيف يتم: في الحرب استخدام الجنس والاغتصاب كجزء من استراتيجية حربية لتحطيم طرف محدد بإذلال نسائه وبالتالي كسر إرادته بشكل كامل عندما يكون الاغتصاب ممنهجاً كأي جريمة حرب.
هذا الفيلم من تأليف وإخراج المخرجة البوسنية جازميلا زبانيتش، وهو الفيلم الروائي الطويل الأول لهذه المخرجة والكاتبة من مواليد 1974. أنتج الفيلم سنة 2006 وقد حاز على جائزة الدب الذهبي ببرلين للعام نفسه. ومن الواجب ذكره أن الممثلة ميريانا كارنوفيتش والتي مثلت دور الأم “أسماء” هي ممثلة صربية الأصل لذا فقد وجهت لها أصواتٌ عنصرية كثيرة اللوم الشديد لأداء هذا الدور وقد تم حتى تهديدها بالقتل من متطرفين صرب.
في بداية الفيلم، تطلب الابنة من أمها مبلغ مائتي يورو لتشارك في رحلة تخييم مدرسية، تعد الأم ابنتها بتأمين المبلغ وبعد فشلها باستدانته من كل من تعرفه تلجأ للعمل في ملهى ليلي لتأمينه. في العلاقة ما بين الأم وابنتها شرخ واضح، في كل تلامس بوضعية محددة تنفر الأم وترتعد وتصرخ وتهرب من ابنتها، الذعر هنا إشارة ما، سننتظر طويلاً لفهمها، وحتى ذلك الوقت يتواصل الوعد وتتواصل جهود الأم العبثية إلى أن تفاجئ البنت أمها قائلة بأن أبناء الشهداء معفيون من قيمة المبلغ المطلوب!
نكتشف أن الأم قد أقنعت ابنتها بأن والدها الغائب هو شهيد، لكن الأم تتذرع بأن إصدار الورقة يتطلب مراجعة المختار والبلدية والنفوس، وتؤجل وتُماطل وتعجز في الوقت ذاته عن تأمين المبلغ المطلوب للنجاة من مطب تأمين الورقة التي تثبت أبوة البنت.
في مشهد عاطفي مؤثر، تسأل البنت أمها عن سبب عدم وجود صورة للأب الشهيد، تتلعثم الأم وتقول بأنها تركتها في البيت القديم وستحاول البحث عنها وتكبيرها، وهنا تقول البنت لأمها من أشبه أكثر، انت أم أبي؟ تجيب الأم بلهجة تدعي الثقة تشبهينني أكثر، مع أن الواقع يوضح بأن ملامح الابنة صربية وليست بوسنية، لكن الأم تؤكد بأن شعر الابنة الأشقر مشابه تماماً لشعر أبيها.
وذات اشتباك جسدي تنهار الأم وتعلن لابنتها بأن أباها ليس بشهيد وبأنه مجرد جندي اغتصب والدتها التي ترددت بالاحتفاظ بالطفلة بعد ولادتها، لكنها وبمجرد رؤيتها وتلمسها لها قررت الاحتفاظ بها.
في لحظة درامية قاهرة تقص البنت شعرها لتصبح صلعاء تماما وكأنها ترفض كل رابطة تجمعها بأبيها المغتصب وتنهار، لكن يخفف من الوضع عاطفة الأم وصبرها وسعيها بأن لا تتحمل الابنة وزر ذلك الاغتصاب الذي لا ذنب لها فيه. ونرى الأم تودع ابنتها الذاهبة لرحلة التخييم المدرسية بعد أن قامت صديقات الأم بجمع المبلغ من قبلهن، وكأن ذلك إشارة إلى ضرورة دعم المجتمع المحلي والعائلة خاصة في ظل غياب آليات الدعم الرسمية لضحايا الحرب وجرائمها وأبشعها الاغتصاب.
تدفع النساء في الحروب الفاتورة الأكبر لأن أجسادهن سلعة حرب، ولأنهن يتركن وحيدات ليس من الرجال بل من الحماية والرعاية وقد يفلت المجرمون من العقاب وبإرادة جمعية. وهن مغيبات أصلاً عن المعارف وعن مداخل القانون وعن حق الوصول إلى المعلومات لكشف مصير رجالهن وأبنائهن وأفراد عائلاتهن. وقد تم تصوير الفيلم وبإصرار من المخرجة في مقر مركز اعتقال وتعذيب واغتصاب أقامه الصرب.
سينما ما بعد الحرب، سينما غير تقليدية، الحبكة ليست ذروة الفعل الدرامي الذي يرسمه المؤلف ويقرره المخرج، بل هي لحظة الحقيقة، لحظة الانكشاف وتلمس بداية الطريق، والطريق هنا ليس مسار الفيلم الزمني أو مسار الأحداث، بل مسار البطلات، والبطلات هن النساء الصامدات على قيد التحدي، لكشف مصير الغائبين ولرعاية من تبقى ولإنجاز كل الأعمال المطلوبة من الرجال ومن النساء معاً.
في سينما ما بعد الحرب شحنات من الغضب وتوق للحب وإصرار على المواصلة، لكن الحقد غائب ومغيب معاً، بإرادة النساء وبتوافق مع صناع العمل الفني أو الفيلم، ليس لمقابل مادي أو تلبية لخطاب تطهري أو ديني أو روحاني مستلب يعفي المجرمين من العقاب أو يحيل أسباب الحروب كلها للقضاء والقدر أو لإرادة إلهية أو سلطوية، بل لأن قيم العدالة ترفض الحقد وتخشاه مغبة اندلاع حروب جديدة. قد تنتظر سينما ما بعد الحرب وقتاً طويلاً بعد انتهاء الحرب، لكنها تبقى صالحة للعرض في كل الأوقات وحتى بعد عشرات السنين للتأكيد على أن النسيان مستحيل لكن الحياة تجب ما قبلها وتسير دوماً نحو الأمام.
نساء ما بعد الحرب لا ينتظرن انتهاءها بل يسعين جاهدات لإطفاء جذوتها رغم أنهن يبكين في دواخلهن ليلاً ويعملن نهاراً. يمسحن الغبار عن صور الأحباء ليلاً، وفي النهار يخرجن الوثائق اللازمة لأبنائهن للعبور نحو الغد. يبدلن مقاس صور الغائبين والمفقودين والتي يحملونها أمام غرف الموظفين الدوليين وأمام المقار الأمنية لمعرفة مصير أصحابها، يبدلنها لتصبح صالحة للتعليق على الجدران أو على شواهد القبور، وتسيل أغنيات الوداع دافئة ولاسعة والدموع التي تحرق الوجنات تضحك في أعراس من تبقى ولو بعد انتهاء الحرب بسنين. ويكفيهن أنهن لم يشعلن حرباً يوماً وأنهن بطبعهن يجنحن للسلام، فكيف إن قررن وتداعين لذلك، وهنا مكمن النجاة.