هل ساهم مسلسل “ظل” بتعزيز الصور الذكورية في المجتمع؟
مايا البوطي
ملاحظة: المقال يشير إلى تفاصيل ترتبط بأحداث العمل والذي قد يؤدي لكشف البعض منها للمشاهدات والمشاهدين اللواتي والذين لم يتابعوا ويتابعن العمل.
تنشر هذه المادة بالتعاون بين بين شبكة الصحفيات السوريات وراديو روزنة.
باتت الأعمال الدرامية في شهر رمضان مناسبة موسمية تجذب شريحة كبيرة من المتابعات والمتابعين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وقد حصد مسلسل ظل الذي تم عرضه مؤخراً، عدداً كبيراً من المشاهدات، وتباينت الأاراء حول جودته الدرامية أو عدمها، لكن يبقى من اللافت في هذا العمل كيفية تمثيل معنى الذكورة بالتطلع لشخصيات الرجال وطرق إنتاجها من خلال العلاقات بينهم وبين النساء.
ومما جعل العمل حدثاً درامياً لافتاً استضافته لمجموعة من النجوم والنجمات من سوريا ولبنان، فهو عمل مشترك من إنتاج سوري تم تصويره في لبنان. المسلسل من إخراج محمود كامل وتأليف سيف رضا حامد. تدور الأحداث الرئيسية في شركة محاماة يسعى المحامون فيها وكجزء من عملهم بشكل أساسي، إضافة لرغبتهم بذلك على المستوى الشخصي، لتحقيق العدالة. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن المحامين في الشركة جميعهم رجال.
وبالتالي، يستوقفنا بروز شخصيات الرجال كممثلين رئيسيين على حساب نظيراتها من شخصيات النساء على مستوى المساحة المعطاة لهم وثقل الدور وظهورها كشخصيات محركة للحدث الدرامي. وضمن فلك شركة المحاماة، بدت النساء سلبيات عاجزات ومستضعفات ومنفعلات. لذا يركز هذا المقال على تحليل مفهوم الذكورة في مسلسل ظل وعلى العلاقات الجندرية ضمنه.
ومن المهم الإشارة إلى أن المسلسل والذي تم تصويره في لبنان، يدور في عالم بعيد عما يعانيه هذا البلد. فهو يقتصر على طبقة غنية تحكمها علاقات العمل والنجاح والثراء، وهذا الشرط بات يشكل سمة للأعمال الدرامية على المنصات الرقمية مثل منصة شاهد. وبعيداً عن كون هذه الأعمال مفرغة في أغلبها من المعاني السياسية العميقة، إلا أن المتابعات الكبيرة لهذه المنصات تحتم قراءة العلاقات الجندرية التي تقدمها. فالشخصيات الرجالية والنسائية فيها تشكل نماذج قد تساهم بتعزيز ممارسات وتصورات معينة حول أدوار كل من الجنسين وماتعنيه الذكورة.
تبدأ الأحداث بانسحاب المحامي قيس العابد (يوسف الخال)، والذي تم تقديمه كشخصية نبيلة وذات حساسية عالية، من الدفاع عن المدعى عليه في قضية اغتصاب شابة. وقد تم تعيين قيس كمحامٍ باسم شركة المحاماة التي يديرها جلال الباني (عبد المنعم عمايري)، المحامي الثري والمتنفذ. ومن خلال مجريات العمل يتضح كون المدعى عليه مذنباً فيما ادعت عليه الشابة.
ولكن لكون والده من الشخصيات المعروفة بفسادها وتسلطها، يسعى للهروب من جريمته بتوكيل أفضل المحامين في تلك الشركة. لذا ولمعرفة والدة الشابة بمهارة المحامي قيس، تدرك حتمية الخسارة، رغم كونها صاحبة حق في ادعائها. عندها تتوجه لتطلب من المحامي أن يقف لصف الحق وينصف ابنتها من الظلم المحتم في قاعة المحكمة. وفي مفاجأة غير متوقعة يتخلى المحامي قيس عن المدعى عليه أثناء المرافعة، لعدم قدرته الاستمرار في الدفاع عن مجرم تسبب بأذى لا يمكن وصفه تجاه الشابة.
من هنا ينطلق الحدث الدرامي الذي تنقسم فيه الشخصيات بين من يعمل تحت راية جلال الباني الذي يحكمه منطق السلطة والقوة في تنفيذ العدالة، وبين الشخصيات التي تبحث عن عدالة أكثر إنسانية. أي أن العمل يدور حول سؤال العدالة ومدى إمكانية تحقيقها في عالم محكوم بالسلطة والمال وضمن منظومة فاسدة. وفي هذا العمل تظهر شخصيات الرجال والتي تتسم بالصفات التقليدية للذكورة التي ترتبط بالسيطرة، كشخصيات تحتمي بالقوة والعنف، حيث تصبح أجساد النساء مسرحاً لجرائم متعددة تتبدى عبر حلقات المسلسل من اغتصاب وقتل وإخضاع.
ويبدو كأن العمل ينقسم لقسمين فالقسم الأول يركز على قضية الاغتصاب وما تحمله من تداعيات. بينما يدور القسم الثاني من العمل، حول فك لغز انتحار عارضة الأزياء نوارة والتي كانت على علاقة بمصمم الأزياء الذي يكبرها وهو جبران الصافي (جمال سليمان).
وضمن هذه الحبكة الدرامية يتضح تعقيد العلاقة بين جلال الباني وجبران الصافي، والذي يضعهما العمل على كفي نقيض. فجلال يسعى للانتقام من جبران “لشرف والدته المهدور”، بحسب تصوره. فهو على قناعة أن والدته قتلت في فترة طفولته بسبب علاقة جمعتها بجبران الشاب في ذلك الزمن. بينما يتبين براءة جبران من كل التهم التي تربطه بالعنف ضد النساء، ومنها تهمة قتل عارضة الأزياء نورا.
إذاً يتجلى الصراع بين الشخصيات الرئيسية والتي تمثل أنواعاً مختلفة من الذكورة في عالم تبدو فيه النساء خاضعات لقوانينهم. وفي مسلسل ظل تتنوع شخصيات الرجال بأنماطهم المختلفة
بين من هم في أعلى السلم الاجتماعي من ناحية الثراء والقوة كالمحامي جلال ومصمم الأزياء جبران. وبين شخصيات تسعى للثراء وتجاوز عتبة أعلى الطبقة الوسطى مثل المحامي رافي الذي يجعله طموحه فريسة لمؤامرات جلال الباني.
ومما لا شك فيه أن الدراما تساهم بتعزيز صور معينة عن الذكورة، والتي تصبح بدورها نماذج قد تشكل قدوة للفتية والرجال وتؤثر بهم.
وهذا ما يؤكده جاك هالبرستام، والمعروف (بجوديث هالبرستام سابقاً)، في فصل “الجيد والسيء والقبيح”، فالإعلام تبعاً له يساهم بخلق تصورات تعزز ممارسات ذكورية معينة. ويرى أنه منذ فترة التسعينيات مرّت الذكورة بحالة من الأزمة. فهناك بحث عن النموذج الإيجابي الذي يتوجب أن تمثله فيما يتعلق بالأبوة وبمفهوم المنافسة في العمل وفي ما يرتبط بالممارسات الجنسية وظاهرة التحرش.
وبالتالي فإن الذكورة كممارسة اجتماعية ترتبط بتوقعات تفترض أن نموذج الرجل المثالي يرتبط بالمنافسة والقوة الجسدية والكفاءة. أي أن الذكورة ترتبط بالافتراضات المجتمعية حولها، وعدم الامتثال لهذه التوقعات قد يؤدي لوصم الأفراد أو تنميطهم بطرق سلبية.
وبحسب أر. دبليو كولن فإن الافتراض بوجود ذكورة” حقيقة” و”رجولة طبيعية وتلقائية” هو افتراض وهمي مبني على تصورات ترتبط بالبيولوجيا. ويتم النظر للذكورة الحقيقية من خلال افتراض كونها تنبثق عن أجساد الرجال وأنها مورثة فيها. ولا تدعي كولون عدم وجود دور للبيولوجي ولكن هناك دائماً التأثيرات المجتمعية وحتى الاقتصادية والتي تكرس أنماط محددة من الأدوار الجندرية أي الأدوار المجتمعية. وبناء على ما سبق يصبح التمعن بطرق تمثيل الذكور في الإعلام ضرورة للتمحيص بطرق تعزيز ممارسات معينة تبعاً لعلاقات القوى المسيطرة في المنظومة.
يظهر مسلسل ظل وجود نموذج من الذكورة التي ترتبط بالسيطرة، والتي تسعى من خلال السلطة لفرض قوانينها وإرادتها وتتمثل بجلال الباني. في البداية يصعب فهم دوافعه الغامضة وتبدو علاقاته المهنية والشخصية مركبة مع موظفي الشركة من المحامين الراغبين بتعزيز مكانتهم في العمل. يتبين فيما بعد أنه مسكون بماضيه، فهو ضحية لعنف أسري نتج عنه قتل والدته على يد والده. وكما يتبين كونه ضحية زواج مسموم من سيدة ثرية تكبره بأعوام تسيطر عليه من خلال ثروتها ومالها. لينقلب عليها مع مرور الزمن بطريقة انتقامية يحول فيها آخر أيامها إلى جحيم. كذلك، يحول جلال حياة من حوله إلى دوامة من العنف والشكوك والمؤامرات التي تقود لتدمير العلاقات بين المحامين كزملاء في العمل، وتصل حتى لتخرب العلاقات مع زوجاتهم. ورغم سلبية هذه الشخصية، إلا أن دوافعها المركبة درامياً تجعلها شخصية غنية درامياً رغم شيطنتها في لحظات.
يقدم العمل شخصيات الرجال في أزياء أنيقة ورسمية، وتصبح البدل الرسمية كرمز لذكورة عصرية ذات حضور في الفضاء العام وذات تأثير وفاعلية.
لا تأتي شخصيات الرجال الأخرى التي تدور في فلك جلال الباني كشخصيات أكثر إيجابية. بل يبدو أنها ضحية الذكورة العنيفة التي تجعل من التنافس والعدوانية، ممارسات حاضرة في فضاء العمل وفي الفضاء الخاص حيث تقف النساء حائرات في هذه المواجهة.
ورغم سلبية جبران الصافي مصمم الأزياء العالمي، لكنه يقدم شكلاً مختلفاً عن نموذج الذكورة التي ترتبط بالعنف والسيطرة. فهو الفنان الذي تعلم تصميم الأزياء من والدته ويحركه دائماً البحث عن الحب. ويعبر عن مشاعره بشفافية ورقي لمن حوله من نساء وموظفين وموظفات. وقد يبدو من هذا، الاختلاف أن العمل يرى وجود انقسام تنميطي بين عالم القانون البارد والمتصلب الذي يخلو من عدالة حقيقية، وبين عالم الفن المفعم بتسامح الحب.
ويعكس هذا الانقسام أيضاً وجود شخصيتين نمطيتين من الذكور فمنهم من يستطيع التعبير عن مشاعره والتصالح معها، ومنهم من يسعى للعنف مع العجز المستمر عن التعبير عنها. ويظهر أن هذه الوصفة تمثل إشكالية مشروعة رغم وقوعها في فخ التنميط. لكن ما يميز المعالجة الدرامية ربط الذكورة المهيمنة بالسلطة وبسؤال العدالة وهذا يعطي العمل الجدلية التي تظهر تحدي هذا النموذج.
ومن المهم التأكيد أن الذكورة تبنى أيضاً من خلال ارتباطها بالشخصيات النسائية، أي أن دراسة الذكورة تتم بالنظر للعلاقات التي تجمع بين الرجال والنساء. وضمن مسلسل ظل نرى أن سعي الرجال للنجاح والوصول يتناسب طرداً مع العنف الموجه ضد النساء.
ومن اللافت أن فضاء شركة “G Global” وهي شركة المحاماة التي يديرها جلال الباني تخلو من المحاميات، وأن الشخصية النسائية الوحيدة التي توجد ضمن فضائها هي مساعدة جلال. وتم رسم شخصية السكرتيرة بطريقة تنميطية لسيدة مهزوزة وهي عبارة عن تابعة مستعدة لفعل المستحيل لإرضاء مدير العمل. في المقابل فإن المحامية أمل ابنة خالة المحامي قيس والتي تعمل بشكل مستقل، تشكل الشخصية النسائية الوحيدة المتوازنة نسبياً. فهي تستمر بخلق توازن يمثل صوت المنطق في المسلسل. لكن تم رسم الشخصية بطريقة تبدو فيها عالقة في قصة حب من طرف واحد تجعلها مرة أخرى وكبقية الشخصيات النسائية في العمل تظهر كأسيرة عالم يمتلك فيه الرجال دفة القيادة.
ويقدم العمل شخصية المحامي رافي، الطموح في عمله، وعلاقته بزوجته لجين التي تبدو شخصية غير ناضجة وكثيرة التشكي والتذمر. مما يشير لعدم مراعاة الحساسيات الجندرية في رسم هاتين الشخصيتين.
وكما يَنم عن استسهال تقديم شخصيات نمطية لا توحي بحساسية العمل تجاه التفاعلات التي تحكم أدوار النساء والرجال الاجتماعية في حاضرنا. فرغم أن المحامي وزوجته ينتميان لجيل شاب وعصري ومن طبقة متوسطة إلى أعلى الطبقة المتوسطة إلا أن إشكالية عمل لوجين ورفض زوجها لعملها بدت خارجة عن سياق العصر.
وبدت لوجين محطمة بين الفضاء الخاص المحكوم بقوانين زوجها وبين رغبتها بالعمل ودخول الفضاء العام المحكوم برجال أعمال يسعون لاستغلالها جنسياً.
وتدل هذه الجدلية وكأن على النساء الاختيار بين الحياة العائلية وبين العمل والذي يتجلى كغابة تخلو من القوانين الضابطة. ويوحي العمل أن النساء غير قادرات على النجاح والتقدم، وكأن الفضاء الخاص يقع بالضرورة على النقيض من عالم العمل والنجاح. وحتى عند وصول لوجين لمرحلة من الوعي وإدراكها للاستغلال الذي تعرضت له، تعبر عن ندمها بالعودة لشريكها. ويأتي ذلك رغم أنه يتضح أن الاثنين قد كانا مخطئين في حق بعضهما، لكن يبدو أن الندم هو من نصيب الشخصيات النسائية فقط.
في المقابل تعتبر قضية الاغتصاب والتي تشكل حبكة ثانوية، كحلقة مهمة في هذا العمل الدرامي. فقد ظهرت فيه شخصية الأم كامرأة قوية مصرة على استعادة حق ابنتها التي تم الاعتداء عليها.
وعلى عكس التنميط المعتاد للأمهات اللواتي يشعرن بالوصمة عند تعرض بناتهن للاغتصاب استمرت الأم بدعم ابنتها وبالوقوف بوجه المعتدي. وفي تفصيل ظهر في العمل، استغله المحامي رافي الموكل الجديد في القضية، يتم استخدام شهادة شاب كان على علاقة جنسية سابقاً بالشابة ليبين أنها تفضل العنف في هذا النوع من العلاقات. وبدورها ترفض المحكمة استغلال المحامي لهذه الشهادة لتبرئة المغتصب.
وتعتبر هذه المحاكمة كدليل مهم على الحساسية الجندرية درامياً، فهي من المرات النادرة التي يتم فيها تمثيل قضية اغتصاب لشابة لها علاقات سابقة، ومع ذلك، لا تتم إدانتها لقبولها التوجه لمنزل الشاب. ويستمر العمل بالتركيز على ضرورة أخذ حقها لأن ما تعرضت له لم يكن برضاها. وعلى عكس ما اعتدناه من لوم الضحية أو من ضرورة تصويرهن كنساء دون علاقات جنسية سابقة، لخلق التعاطف معهن، ظهرت الشابة كإنسانة لها علاقات وتطالب باسترداد حقها عندما يتم اخضاعها لعلاقة غير رضائية وعند تعرضها للعنف. ورغم سعي شركة المحاماة لتقديم دخولها لشقة الشاب برضاها كدليل ضدها وعلى كونها راضية عن الجريمة، إلا أن المحاكمة بينت أن الاعتداء لا يصح تبريره بناء على ذلك.
ورغم أن مسلسل ظل يقع في فخ تنميط النساء بشكل عام كشخصيات ضعيفة ومهمشة وكضحايا، لكنه لا يتردد بإدانة الذكورة العنيفة والمسيطرة وإظهار سمية الذكورة التي ترتبط بالسلطة لإخضاع الآخرين.
وهنا تأتي أهمية هذا العمل الذي يظهر النتائج الكارثية للتسلط والسيطرة والفساد. ومما أدانه العمل استخدام أجساد النساء لتحقيق انتصارات، ففي إحدى المرات يقوم أحد المحامين والواقع في شباك المنافسة السامة، بأخذ فيديو لزوجة زميله مع مديرهم في العمل كأداة للابتزاز.
وعند افتضاح هذا الفيديو، يتم التعاطي مع هذا الفعل كجريمة يدينها الجميع. أي أن العمل عكس في بعض التفاصيل حساسيات ترتبط بمفهوم الرضائية ورفض الابتزاز والتشهير ورفض لوم الضحية. لكنه افتقر لتقديم شخصيات نسائية درامية ذات حضور يضاهي حضور شخصيات الرجال بتنوعها الجندري، والتي تستمر بتحريك الحدث الدرامي.
وتم تمثيل النساء كشخصيات منقادة لا تملك خيار تحديد مصيرها. ومما سبق توضح أهمية تقديم نماذج جندرية تبتعد عن التنميط وتعكس الحساسيات التي نعايشها اليوم، والتي تتبدى بمطالبات عبر المنصات الرقمية وفي التجمهرات على الأرض للمطالبة بتحسين شروط حياة النساء.
وللإعلام دور أساسي في استشراف إمكانيات جديدة من خلال تقديم نماذج غير نمطية. لذا من المهم تحلي الإعلام بالجرأة لكسر فخ محاباة المنظومة السائدة والمساهمة بالتغيير الواعي لاحتياجات الأقليات المهمشة.