هل وجدت المطلّقة نفسها في مسلسل “البحث عن علا”؟
لمى راجح
تنشر هذه المادة بالتعاون مع راديو روزنة
“البحث عن علا” مسلسل حظي بمشاهدة “ترند” مرتفعة عبر منصات التواصل الاجتماعي، مثيراً بعض الجدل حول ما طرحه من أفكار، والمسلسل عبارة عن ست حلقات تم عرضها عبر منصة نتفكليس خلال شهر شباط/ فبراير من هذا العام.
يحكي المسلسل قصة الصيدلانية علا عبد الصبور، التي انفصلت عن زوجها هشام، ولديهما ولد وبنت، حيث طلب هشام الطلاق والانفصال عنها، بعدما أصابته أزمة قلبية وهو في عمر 45 وبعد شعوره بالملل من علاقته الزوجية وعدم سعادته ونيته بالانفصال.
تبدو علا امرأة مكتئبة بعد الانفصال، لتبدأ في البحث عن ذاتها وحياتها بعد تجربة زواج دامت 13 سنة، وبعدما ضحّت بمستقبلها المهني، وهنا تقرّر علا العودة لعملها وتؤسس شركة لإنتاج مستحضرات تجميل طبيعية.
في حين دخل زوجها بعلاقة مع امرأة أخرى بحثاً عن حياة جديدة، دون تحمل مسؤوليته في تربية الأطفال، حيث ترك هذه المسؤولية لتتحملها علا وحدها، ولكنه بعدها أصيب مرة أخرى بنوبة قلبية، قرر على إثرها العودة لعلا وأولاده، إلا أنها لم تسامحه ورفضت العودة إليه، وفضلت أن تتابع حياتها دونه، سيما أنها بدأت تنجح في عملها.
عندما شاهدتُ المسلسل شعرت أن تجربة علا ربما لامست العديد من النساء اللواتي مررن بتجربة الطلاق أو الانفصال، وأن الحياة مستمرة لا تنتهي عند رجل أو شريك عاطفي كما اعتدنا أن نقولها باللغة العامية، وكما يحاول المسلسل طرحها في الحلقة الأخيرة، وهذا ما دفعني للكتابة عنه، وهنا لست بصدد نقد المسلسل بقدر ماهي محاولة للوقوف عند بعض نقاط تستدعي التحليل من منظور جندري.
بداية ما جذبني في هذا المسلسل هو تجسيده للتنميط الجندري بين علا وزوجها منذ حلقاته الأولى، وذلك من خلال حوار دار بينها وبين أقارب زوجها في عيد ميلاد ابنها، إذ توضح علا بابتسامة تحمل السخرية من واقعها، أنها فضلت الاعتناء بالأطفال والبيت عوضاً عن عملها كصيدلانية.
تستمر الأحداث ضمن وتيرة ليبدو أن المسلسل قلب الطاولة رأساً على عقب ضد القيم النمطية السائدة بشكل عام عن المرأة المطلقة، حيث جسدت علا شخصية المرأة التي تتكيف مع ظروف الطلاق لتبحث عن ذاتها وخياراتها في إيجاد الرجل المناسب، ولكن ما يستدعي التوقف عنده هو الاستسهال في حل المشكلات التي تعترض عادة معظم المطلقات والحبكة السلسة الخفيفة، وطريقة التناول المتكلفة في الأزياء والديكور والبيوت الفخمة، جعلتني أفكر هل جسّد المسلسل وحاكى بالفعل حياة معظم المطلقات ضمن مجتمعاتنا؟
هل بالفعل تكون حياة المطلقات في مجتمعاتنا المحلية سهلة وميسّرة كما طرحها المسلسل مع التبسيط المتعمد للمشكلات التي قد تواجه عادة معظمهن، وتخلو حياتهن من أي تنميط أو هجوم عليهن وعلى قراراتهن أو تعرضهن للتنمر والتحرش؟
بالعودة للمسلسل نجد أن علا ظلت تقيم في بيتها بعد الطلاق وبعدما تركه زوجها لها ولأطفالها، وعرض عليها نفقتها هي والأولاد، وهنا تذكرت محاكمنا المحلية في سوريا، وربما كذلك المحاكم المصرية التي تعج دائماً بقصص تحصيل النفقات للنساء وتهرّب الزوج من ذلك.
بمعنى يبدو أنه حتى فيما يتعلق بتحصيل النفقة، والتي تعتبر من أكثر المشكلات الاقتصادية التي تواجه العديد من النساء بعد الطلاق، طرحها المسلسل بكل يسر، مع الأخذ بعين الاعتبار حق النساء في تحصيل النفقات كتعويض لهن عن جهدهن في التربية والرعاية، سيما إن كن هنّ من يتحملن عبء تربية الأولاد وحدهن.
من ناحية أخرى استوقفني (ربما كما العديد/ات) كيف تمكنت علا من تأسيس عمل خاص بها دون وجود أي تحديات، فضمن مجتمعاتنا عادة ما تشكل فكرة إيجاد العمل والاستقلال المادي عائقاً أمام معظم النساء، سيما في ظل مجتمع أبوي ينمط الأعمال التي تقوم بها النساء، وهنا لم يتردد المسلسل عن تقديم ظروف يمكن وصفها بـ “البراقة” لتأسيس علا لعملها الخاص، تتماشى مع الفكرة الدرامية التي يسعى المسلسل جاهداً للدفاع عنها وهي إمكانية نجاح المرأة المطلقة دون وجود أي صعوبات.
وعلى الرغم من أن المسلسل طرح فكرة سهولة تأسيس عمل خاص بالمرأة بطريقة قد لا تجسد الواقع الحقيقي لها، ولكن الأكثر غرابة هو ربط تمكنها في ذلك من خلال تلقي مساعدة من قبل رجال آخرين بمعنى أنها لم تأسس عملها وحدها.
فمنذ الحلقة الثانية وعندما بدأت تفكر علا بالعمل، تجمعها الصدف بطارق الذهني رجل الأعمال الذي يعرض عليها خدماته في مساعدتها، ليطرح المسلسل فكرة أن عمل المرأة ونجاحها مرتبط دائما بالرجل.
يبدو أن المسلسل تعامل مع كل القضايا التي تواجهها معظم المطلقات من صراعات مادية واجتماعية وجندرية بنوع من الترف والأناقة الزائفة.
إدراك لصراع أمومي بين جيل وآخر
من الإنصاف التوقف عند نقطة طرحها المسلسل وجسدها بين علاقة علا ووالدتها، وعلاقتها هي وابنتها، إذ كثيراً ما شهدنا وعشنا تجارب مماثلة لتجربة علا مع والدتها سهير المرأة التي تريد من ابنتها الانصياع لأوامرها، وترى طلاق ابنتها “مصبية” حسب قولها في إحدى الحوارات، وعلى علا أن تسترجع زوجها بأي طريقة، وتصف زوج علا “بالسكرة” وتعلق على شحوب وجه ابنتها وتصفه “لاحة المطلقات” وتخبرها أنه يتوجب عليها أن لا تعيش من دون رجل.
وتستمر سهير طيلة حلقات المسلسل في عنادها وعناد رغبات علا في عدم العودة لزوجها لتنتهي الحبكة بحديث دار بين سهير وصديقة علا أنه بالفعل على سهير أن تنظر لعلا على حسب هي ما ترغب وليس لأنها زوجة أو أم فلان.
حاول المسلسل طرح شيء من الواقعية ربما بشخصية سهير، حيث كثيراً ما نلاحظ هذه الشخصية التي تتحكم وتفرض السيطرة على ابنتها بحجة أنها حريصة عليها، والنتيجة هي التدخل في قرارات البنت، وفرض السيطرة عليها وخياراتها، وعدم تفهم وجهات نظرها واحترام رغبتها.
على النقيض من ذلك طرح المسلسل علاقة علا وابنتها نادية، إذ تحاول علا أن لا تتحكم في خيارات ابنتها ورغبتها حتى في مواعدة فتى، وحرية اختياراتها.
عندما نعقد المقارنات في مستوى علاقات التي طرحها المسلسل تظهر قضية اختلاف الأجيال، وتعامل كل جيل بحسب اختلاف الزمان والنمط القيمي، ليطرح المسلسل مفهومين مغايرين يحملان نوعاً من الواقعية، ويقدم تصوراً منصفاً لصورة الأم من خلال علاقة علا وابنتها بعيداً عن مثالية الأم الجيدة التي يرسمها عادة المجتمع ضمن قوالب جاهزة ومعدة اجتماعياً.
دراما تغير الواقع
هل كان على صناع/ات المسلسل أن يطرحوا/ن الواقع كما هو؟ هل مطالبة دائماً الدراما في تجسيد الواقع الحقيقي؟
تعتبر الدراما من أهم الوسائل الإعلامية في جعلنا نتماهى مع الشخصية من خلال المشاهدة، فيحدث أن نلتحم مع الشخصيات الدرامية ونعيش مع أبطاله/ن لتظهر تقنية درامية وهي “تقنية التعارف” بين المشاهد/ة والشخصية الدرامية فيبدأ المشاهد/ة من خلال التلقي في التعرف على ذاته/ها وأجزاء من جوانب شخصيته/ها وأجزاء من جوانب الشخصيات الدرامية التي تعرض على الشاشة، سواء أكانت تلك الشخصيات حقيقة أم لا.
يلعب هذا التماهي دوراً كبيراً في زرع القيم والمبادئ والسلوكيات، وفي ظل طرح درامي خفيف نجد في مسلسل “البحث عن علا” أن الدراما ليست مطالبة بشكل دائم في عكس الواقع الحقيقي بل أحياناً تسعى لتشكل صدمة للقيم والسلوك المجتمعية السائدة من خلال طرح درامي غير مألوف أو خيالي، وذلك بهدف التغيير المجتمعي.
من الأهمية في هذا الصدد الحديث عن نظرية الغرس الثقافي ودورها في زرع سلوكيات مجتمعية حتى ولو كانت صادمة أو غير حقيقية في بعض أجزائها كما فعل مسلسل “البحث عن علا“، ويعتبر الباحث الأمريكي جورج جربنر أول من تحدث عنها أواخر ستينيات القرن الماضي، وأشار إلى أن الأفراد الذين يتعرضون/ن لمشاهدة التلفزيون بدرجة كثيفة هم/ن أكثر استعداداً لتبني معتقدات عن الواقع الاجتماعي، تتطابق مع الصورة الذهنية والأفكار والأنماط الثقافية التي يقدّمها التلفزيون عن الواقع الفعلي للمجتمع.
وبالتالي فإن نظرية الغرس تشير إلى أن التعرض للتلفزيون يزرع بمهارة مع مرور الوقت مفاهيم المشاهدين/ات للواقع، بل ويؤثر على ثقافتهم/ن، فيصبح العالم الحقيقي مطابقاً لعالم التلفزيون.
تفسّر نظرية الغرس الثقافي السلوكيات التي تحاول الدراما غرسها في المجتمع من خلال تبنيها لنمط معين وتكرار تعرض المشاهدات لهذا النمط من السلوكيات المطروحة ضمنها.
بالعودة لنمط منصة نتفليكس نلاحظ أنها في بعض المطارح تتبع نمطاً درامياً معيناً وبشكل أصبح متكرراً بما يشكل صدمة للمتلقي/ة، إذ ليس وحده مسلسل “البحث عن علا” من أثار جدلاً واسعاً، وطرح أفكاراً بطريقة مغايرة نوعاً ما عن الواقع، إذ سبق وطرحت المنصة مسلسلات أخرى مثل مسلسل “جن، ومدرسة الروابي” وفيلم “أصحاب ولا أعز“.
ووفقأ لذلك، ربما سنلاحظ في الأيام المقبلة إنتاج مسلسلات درامية تجسد سلوكيات مشابهة لما تم طرحه في مسلسل “البحث عن علا“، ربما كمحاولة لزرع قيم جديدة، مع الأخذ بعين الاعتبار حجم تأثير الحركات النسائية والنسوية اليوم في الدفع لتقبل مسلسلات ناطقة في اللغة العربية تتحدث عن سلوكيات وأنماط قيمية، ربما لم نعتد كثيراً على رؤيتها في الدراما، تجسد نمطاً مغايراً للنساء ممن ينتمين لفئات اجتماعية محددة كفئة المطلقات والمنفصلات، وتصرفاتهن ليست مطابقة للتوقعات الاجتماعية.
وهنا يمكنني القول أن حلقات المسلسل “البحث عن علا” أعادتني في الذاكرة لسنوات سابقة، عندما اعتدنا أن تطرح الدراما صورة المرأة المضحية التي تغفر للرجل أو للشريك العاطفي وتسامحه لكي تستمر في القيام بدورها الأمومي المتوقع منها، وتضحي لتحافظ على لمّ شمل الأسرة، على اعتبار أن الأمهات هن اللواتي يتحملن مسؤولية الرعاية دون الرجال، ومن هذه المسلسلات شخصية عايدة في مسلسل “قاع المدينة” عام 2009، حيث غفرت لزوجها بعدما تركها وقرر الانفصال عنها، ولمت شمل أسرتها وضحت كرمال أطفالها.
أما اليوم فبتنا نشاهد المرأة التي لا تغفر للرجل وتسامحه فقط لكي تقوم بدورها الأمومي أو الرعائي.
من الإنصاف القول أن المسلسل حمل في طياته نظرة نسوية من خلال عقد مقارنات بين المرأة المطلقة والرجل المطلق، إذ يسلط المسلسل الضوء على التناقضات من خلال تعاطي المجتمع مع هشام، إذ يتقبل المجتمع دخول هشام بعلاقة عاطفية جديدة مع فتاة تصغره بسنوات كثيرة، ويحترم رغبته في الطلاق عندما يشاء، بينما تجد المطلقة نفسها وهي علا مطالبة بتحمل كافة المسؤوليات التي تركها خلفه الزوج المطلق لزوجته.