“ياحسرة، التعليم مو للعالم الفقيرة”
“ياحسرة، التعليم مو للعالم الفقيرة”
طفلات يجبرن على ترك التعليم من أجل العمل
الصحفيّة: سيرين المصطفى
“تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع «تمكين الجيل القادم من الصحفيات السوريات» بالشراكة بين مؤسستي «شبكة الصحفيات السوريات» و «حكاية ما انحكت». أُنتجت هذه المادة بإشراف الصحافية آلاء محمد”
“ياحسرة، التعليم مو للعالم الفقيرة اللي متلنا”، تقول مرام ذات الخمسة عشر عاماً، والتي حرمت منذ عامين من إكمال تعليمها.
مع كل اقتراب لموعد بدء المدرسة، تراقب مرام صديقاتها اللاتي يجهزنَّ أنفسهنَّ للبدء بالدوام المدرسي، والابتسامة مرسومة على وجوههن، بينما تأكلُ الحسرةُ قلبها رويداً رويداً، بسبب إجبارها من قبل والدتها على ترك المدرسة كي تتفرغ لموسم الزيتون. باءت جميع محاولاتها لإقناع والدتها بالعدول عن قرارها بالفشل، ليصبح إكمال تعليمها واحداً من الأحلام المستحيلة بالنسبة لتلك الفتاة وبدلاً من شراء الكتب والدفاتر، صارت تحضّر الحراجة والقبعة والكفوف لتكون مستعدة لقطاف الزيتون، ومن ثم جمع ثماره المتبقية في الأراضي.
واحدة من كثيرات
قبل النزوح إلى مخيمات شمال غرب البلاد كانت أغلب الفتيات العاملات يعملنَّ في أراضي العائلة والأقارب بإرداتهن، لكن بعد النزوح اضطر أباء وأمهات على إجبار بناتهم على العمل مع مختلف الورشات الزراعية الموجودة في مناطقهم من أجل المساهمة في الإنفاق على الأسرة، خاصة بعد النزوح وتضاعف حجم المسؤولية الملقاة على عواتقهم، وتلك الأعمال متاحة خلال فصل الشتاء، لكنها متوافرة أكثر في فصل الصيف، وتتنوع ما بين حصاد وتنظيف الأرض من الأعشاب الضارة، قطاف الخضراوت وغيرها.
لا يوجد إحصائيات دقيقة عن عمالة الأطفال والطفلات في شمال غرب سوريا لأسباب متعلقة بالوضع الأمني الذي تعيشه المنطقة، لكن خلال متابعتنا لهذا الموضوع بالذات، التقينا بعمال وعاملات في أربع ورش زراعية، واحدة في قاح واثنتين في عفرين الواقعتان في ريف حلب، وواحدة أخرى في دير حسان شمال إدلب، ولاحظنا أن أغلب العاملات ضمنها كانت أعمارهن تحت الثمانية عشر عاماً، تخبرنا أم حسين (٣٨ عاماً، نازحة من ريف إدلب الجنوبي وتقيم في إحدى مخيمات دير حسان)، أنها تعمل مع أطفالها الخمسة في موسم قطاف الزيتون، وتوزع المهام بينهم كل حسب عمره وقدرته على العمل، ولكنها تشعر بالذنب كونهم يتحملون مشقة العمل في عمر صغير و أجساد غضة.
شبح التحرش يلاحق الطفلات العاملات
تعرّضت عيشة (١٦ سنة عاملة ومقيمة في أحد مخيمات قاح في ريف إدلب الشمالي) للتحرش في مكان عملها، لكنّها رفضت أن تقول ما حدث معها لعائلتها: “ما الذي يضمن لي لو أنني شكوت لوالدي بأنني تعرضت للتحرش بأن لا يتشاجر مع صاحب العمل ويتضاربون، أو يتهمني بالكذب، أو يلقي اللوم علي ناسباً السبب إلى ملابسي أو طريقة تعاملي معه”.
خلال لقاءاتنا مع عدد من العاملات في ريف إدلب، عرفنا أنّ التحرش يأتي في مقدمة المشكلات التي تخاف الفتيات من التعرّض لها خلال العمل، لاسيما أنهن لا يملكنَّ المعرفة الكافية في الدفاع عن النفس، ولا يمتلكن الجرأة لإخبار عوائلهن بما حصل، خوفاً من تكذيبهن أو تحميلهن مسؤولية التحرش كما حصل مع أخريات.
حاول رب عمل سندس جابر (١٣ عاماً وتعيش في أحد مخيمات دير حسان) أن يتحرّش بها، مُسمعاً إياها كلمات غير لائقة ويلاحقها من مكان إلى آخر، تقول سندس إنّها كانت تشعر بالضيق، لكن “لم يكن لدي الجرأة بأن أرد عليه، وخفت أن يكذبني ويصدقونه، أو أن يدعي بأنّه يمزح. لحسن حظي أني لم أعمل معه طويلاً، وصرت أعمل مع أمي وإخوتي في ورشة واحدة ولم يعد يدخل فيها شخص غريب عن العائلة”.
تعاني العاملات من انتقادات من الوسط المحيط بسبب هذا النمط من المهن، مثل حصاد المواسم الزراعية، تعشيب الأرض، قطاف الورد من الحقول، وغيرها من المهن، تروي لنا إحدى اليافعات خديجة عبد الواحد، 14 عاماً، عاملة مياومة، تقيم في مشهد روحين شمال إدلب: “بعض الناس تنظر إلينا نظرة سيئة كوننا نعمل مع الورشات، وربما يتهموننا بالسرقة أحياناً، أو التلفظ بكلمات نابية، المشكلة أنهم يعممون، ما يجعل فتيات الورش فرصهن بعروض جيدة للزواج قليلة نسبياً، بسبب الوصمة الاجتماعية، ثم تقول: “ليس الجميع مثل بعضهم، هناك من يتعاطف معنا ويقدر جهودنا ويقدم لنا مساعدات”.
أضرار جسدية وتعب دائم دون مقابل مادي
فضّلت إسراء (١٧ عام) أن يبقى اسمها الحقيقي مخفياً بسبب خوفها من رد فعل والدها لو علم أنّها شاركت قصتها معنا. تقول لنا إسراء إنّ والدها انفصلا حين كانت في العاشرة من عمرها، “بقيت مع والدي، ثم تزوج بسيدة أخرى والتي أجبرتني بعمر الثانية عشر على ترك المدرسة والعمل مع الورشات الزراعية، لم تشفع دموعي لي عند والدي، ولم تجدي توسلاتي أي نفع، فصرت أعمل من الصباح وحتى الظهيرة في أحد الأراضي مع الورشة، وعند العودة تكون الواجبات البيتية من تنظيف وغسيل بانتظاري”.
رغم كلّ ذلك لا تحصل إسراء على أجرها من صاحب عملها، تقول إسراء إنّ والدها يأخذ أجرها بالكامل، “ولا يعطيني ليرة واحدة. ذات مرة قمت بسحب مال من الشاويش لأشتري فستاناً لي، فوبخني بشدة”.
تحكي إسراء عن تعبها وعن عدم وجود حلول أمامها إلّا “الزواج والخروج من البيت”.
سمعنا عدداً من الحكايات عن استغلال أصحاب العمل للعاملات الصغيرات، واقتطاع جزء من أجرتهن، إضافة إلى الأضرار الجسديّة الناجمة عن الأعمال التي تتطلب حركة وجهداً وتنقل بين الأراضي، كقطاف الزيتون واللوز والجوز والسمّاق والباذنجان وغيرها من المهام الزراعيّة، ومساوئ صحيّة أخرى نتيجة الحرارة وبرودة الطقس، دون أن يلقين أيّة رعاية طبيّة.
وهذه ما حصل مع رزان (١٤ عاماً)، التي كان ظهرها ويديها تؤلمانها بسبب الحصاد لدرجة أن لا تستطيع النوم طوال الليل، فتمضيه وهي تبكي وتشتم الظروف التي أجبرتها على العمل بهذا السن، وتروي قصتها: “تركت المدرسة منذ أربع سنوات بعد أن نزحنا من قرية كفرزيتا بريف حماة الشمالي، وأقمنا في مخيم تابع لمدينة قاح بريف إدلب الشمالي، فطلبت أمي مني أن أعمل مع فتيات المخيم ضمن الورشات الزراعية منذ عامين، الأعمال الزراعية كلها صعبة، لكنني أكره الحصاد أكثر شيء، لأنه يؤلم الظهر واليدين والغبار يدخل في عيوننا، وتضطر لأن نمضي وقتنا وظهورنا منحنية”.
تقول الطبيبة النسائية دانية الصالح من خلال مشاهداتها العينية للنساء والفتيات في عادتها بمنطقة كفر لوسين شمال إدلب: إنّ العمل لساعات طويلة ضمن الورشات الزراعية يمكن أن يؤدي إلى التعب والإجهاد لدى الفتيات، مما يؤثر على بنية أجسادهن ويسبب آلام مفصلية وعضلية في المستقبل، كما يؤدي إلى تغيرات دقيقة في مستوى الهرمونات، وبالتالي يؤثر على الدورة الشهرية بسبب التغير في مستوى الهرمونات، ويؤثر على الجسم بشكل عام وهذا ما عانته كثير من المريضات اللواتي راجعن العيادة.
تشير الطبيبة دانية إلى أنها صادفت حالات لعدة فتيات عانينَّ من مشاكل صحية بسبب الأعمال المتعبة في الأراضي، ومنها واحدة لفتاة في الخامسة عشرة من عمرها، وكانت تعاني من اضطراب في الدورة الشهرية ومن آلام في الظهر، وقد تبيّن من كلامها أنها تعمل في الورشات الزراعية، لتنصحها بالتوقف عن العمل والاستراحة في المنزل.
حسب الطبيبة فإنّ الإجهاد يؤثر على الهرمونات ومستوياتها، و”هذه التغيرات في مستوى الهرمونات يتسبب بسلخ بطانة الرحم بشكل عشوائي وبأوقات عشوائية، مما يؤدي لنزول بقع من الدم بغير موعد الدورة الشهرية المعتاد يتميّز بالنزف بين الدورات، يعني ذلك أن الجهد والتعب يؤدي إلى اضطرابات الدورة الطمثية لدى الفتيات”.
لا تنحصر الأضرار الجسدية بما ذكرته الطبيبة فقط، وإنما هناك أمراض أخرى من الممكن أن تنشأ عن البرد في فصل الشتاء مثل الرشح والزكام والتهاب الحلق وغيرها، وأضرار تنتج عن الحرارة الشديدة خلال فصل الصيف، مع احتمال التعرض للدغة أفعى خاصة أنه من الطبيعي تواجد الثعابين خلال الصيف في المناطق الزراعية والأراضي وبين الصخور.
أزمات نفسية
فاطمة خوجة (١٤ عاماً) هي واحدة من الفتيات اللواتي مررن بٱثار نفسية سلبية، لدرجة أنها صارت تتمنى أن تفارق الحياة، كي ترتاح من المسؤولية الملقاة على عاتقها، بصوت حزين تقول: “عندما أستيقظ في الصباح الباكر قبل الدجاج، وأغادر فراشي الدافئ، لأجهز نفسي قبل وصول سيارة العمل، أتمنى الموت كي أرتاح من هذه الحياة القاسية المملوءة بالمسؤوليات، مساعدة والدي بتأمين ثمن الطعام والشراب واللباس لإخوتي، حتى عندما أعود إلى المنزل يكون التنظيف والغسيل والترتيب بانتظاري، وما إن أشكو، تنهال علي الشتائم من والداي الذين يتهمانني بعدم الشعور بالمسؤولية، ويؤكدان لي بأنني مجبورة بكل هذه الأعمال كونني أصبحت كبيرة حسب قولهم”.
أما فيما يتعلق بالناحية النفسية، يقول الاختصاصي النفسي العيادي براء الجمعة، المختص بالصحة النفسية في مدينة إدلب إن “العمل الزراعي وجني المحاصيل في سن مبكرة وفي ظروف صعبة يمكن أن يكون له آثار نفسية واجتماعية جادة على الفتيات دون سن الثامنة عشر”. ويذكر أن بعض هذه الآثار التي قد تشمل تعطيل التعليم، فالعمل المبكر يمكن أن يؤدي إلى ترك المدرسة مبكراً، مما يتسبب في فقدان الفتيات لفرص التعليم وتطوير مهاراتهن.
هناك أيضاً تأثيرات صحية تصيب العاملات، حسب الجمعة، “فساعات العمل الطويلة والظروف القاسية قد تؤدي إلى مشكلات صحية، مثل التعب والإجهاد والإصابة بأمراض معينة، إلى جانب التعرض للتأخر في النمو الاجتماعي: قد يكون للعمل المبكر تأثير على تطور المهارات الاجتماعية والعلاقات الشخصية، ويمكن أن يؤثر على تكوين الهوية، عدا عن الضغوط النفسية التي من الممكن أن تنشأ نتيجة للمسؤوليات والتوترات المرتبطة بالعمل”.
حسب الجمعة فإنّ الفتيات اللواتي يعملن في مجموعات صغيرة بعيداً عن أماكن سكنهن قد يعانين من الانعزال الاجتماعي، وقد يتسبب العمل المبكر في تأثير سلبي على تطور الفتاة كفرد، ويقلل من فرصها في اكتشاف مهاراتها واهتماماتها، بناءً على هذه الآثار المحتملة.
يقترح الجمعة مجموعة من الحلول مثل توفير فرص تعليمية عالية الجودة ومجانية للفتيات دون سن الثامنة عشر، وتقديم دورات تعليمية ممنهجة تتيح لهن متابعة تعليمهن، وتوفير دعم نفسي واجتماعي وذلك بإنشاء مراكز لدعم الصحة النفسية والاجتماعية في المجتمعات المتضررة.
عمالة الطفلات.. حرمان من الحقوق ومستقبل ضائع
علياء أحمد، كاتبة نسوية وباحثة اجتماعية ومدربة في قضايا المرأة والطفل تؤكد على أنّ “عمالة الأطفال بغض النظر عن جنسهم ونوعهم الجندري، هي شكل من أشكال انتهاك الاتفاقيات الدولية والتشريعات الوطنية، وينتج عن هذا الانتهاك حرمانهم من عيش طفولتهم ومراحلهم العمرية في الوقت والظروف المناسبة، إضافة لحرمانهم من حق التعليم، هذا يرتب آثار نفسية واجتماعية مختلفة بشكل عام، إذ كشف تقرير “فريق منسقو استجابة سورية” أنّ عدد الأطفال المتسربين من التعليم في مناطق شمال غرب سورية فقط، وصل إلى ٣١٨ ألف شخص، بينما وصل عدد الأطفال المتسربين من التعليم في عموم سوريا لنحو ٢.٥ مليون، متطرقاً إلى جملة أسباب دفعت إلى ارتفاع معدلات التسرب من التعليم في المنطقة.
تضيف علياء إلى أنّ الفقر هو أحد أسباب هذه العمالة إلّا أنّ “عمالة الأطفال تزداد وتتصاعد حدة الفقر مع زيادة عدد الأطفال المتسربين من المدارس، والذين لا يؤهلون بشكل كافي لرفع مستواهم التعليمي وبالتالي منسوب دخلهم وانعكاس ذلك على عدد المتعلمين والمتعلمات في البلد”.
كما تفرّق علياء الوقائع بين آثار عمالة الأطفال الذكور عن عمالة الطفلات التي تحمل في جنباتها تبعات أكثر شدة وعمقاً، “يتعرضن من خلالها لمخاطر تعيق نموهنّ الجسدي والفكري، وتقف عائقاً أمام تنمية قدراتهنّ، وترفع احتمالية تعرضهن للاعتداءات والعنف الجسدي والنفسي وأحياناً العنف الجنسي، فالطفلات يعملن في ظروف غير صحية وغير قانونية وهنّ عرضة للاستغلال بجميع أشكاله”. وترى أن “عمالة الطفلات تترافق غالباً مع تسربهن من المدرسة، ويصاحبها لاحقاً الزواج المبكر مع جميع محمولاته السلبية، زيادة نسبة عمالة الطفلات تنتج مجتمع هش، يزداد فقره وجهله، لعدم تمكين فئة كبيرة من فئاته من حقوقها وتعرضها للانتهاك، وهذه الفئة هي ذاتها من ستكون شريكة في مسؤولية الأسر التي ستكونها ويقع على عاتقها مسؤولية تربية الأطفال في بيئة فقيرة مادية وعلمياً”.
إضافة إلى أنه في السياق السوري لا يعتبر إيجاد الحلول أمراً سهلاً في الوضع الراهن، إلا أن الوعي المجتمعي ورفع قيمة العلم، والتزام قوى الأمر الواقع بالاتفاقيات الدولية، وفتح المجال أمام المنظمات الانسانية الداعمة لحقوق الإنسان وحقوق الطفل، ستعطي فرص كبيرة لتخفيض مستوى عمالة الأطفال ذكوراً وإناثاً، ووجود فرص بديلة عن الورشات الزراعية، يتوقف على طبيعة المنطقة وفرص العمل الموجودة فيها، وإمكانية بناء مشاريع مستدامة توفر فرص عمل ومردود جيد يسمح للأهل بإعالة أسرهم دون الاضطرار إلى تشغيل أطفالهم وطفلاتهن وتعريضهم/ن للاستغلال، وفق ما تقول.
تسعى مرام لأن تلتحق بأحد الدورات المهنية المقامة في الشمال السوري، كي تتعلم مهنة أفضل من العمل ضمن الورشات الزراعية، مثل الكوفرة أو الخياطة أو النسيج وصناعة الحلويات، وتعلق: “لن أبقى على هذا الحال، سوف أتعلم وأطور نفسي حتى أجد عملا يوفر لي مستقبلا أفضل، ولن أتخلى عن حلم الدراسة، سوف أظل أقرأ وأتعلم في أوقات فراغي، وما إن تسنح أي فرصة بأن أعود لإكمال تعليمي فسوف لن أتردد ولو للحظة”.