مها الأحمد
آمنت سوريات كثيرات بفكرة العمل وترميم ما خربته الحرب بالإصرار على الحياة ومواجهة الصعاب والتحديات مهما عظمت دون انتظار المساعدة من أحد؛ فتجلى لديهن عطاء بلا حدود يعجز عنه بعض الرجال في هذه الفترة الحرجة التي تمر بها سوريا. إحدى هؤلاء السوريات اللواتي قدمن خدمات كبيرة لدعم الحياة المدنية ومقوماتها هي ندى سميع التي قامت بدور ريادي في المجتمع من خلال أداء مسؤوليات تساهم في الحد من الآثار التهديمية للحرب على كافة الجوانب في مجتمع ذكوري قلما يعترف بفضل المرأة ودورها المؤثر في خدمة المجتمع أثناء الحرب. تنتابُ ندى مشاعر الرضى وهي تراقب خروج طلابها من قبو بيتها الذي كرسته لتعليم أولاد الشهداء والمعتقلين منذ بداية الثورة. وإضافة لدورها كمُدرسة، تُتابع ندى كل يوم أعمال منظمتها “بارقة أمل” النسائية التي انشأتها لإقامة دورات مهنية للنساء متخصصة في محو الأمية والكمبيوتر واللغة الإنكليزية. تشرف ندى أيضاً على دورات قيادة مجتمعية وحشد ومناصرة وتأييد لبعض الشابات الراغبات، وتتحدث عن تجربتها: “بمساعدة عدة نساء يمتلكن الوعي والثقافه والعزم استطعنا عمل الكثير لتمكين المرأة وتفعيل دورها في الحياة المدنية والمجالس المحلية، وحرصنا على اقامة جلسات توعية بكافة المجالات (الصحية وسياسية واجتماعية).” وتؤكد إحدى المستفيدات من دورة الحشد والمناصرة، رؤى (34 عاماً) من مدينة إدلب وأم لطفلين، بأنها استطاعت تأمين عمل بفضل تلك الدورة. وتُتابع ندى بأنها لم تستطع بناء منظمتها “بارقة أمل” النسائية في 10/9/2015 لولا تعاون بعض النساء السوريات من الخارج والتنسيق معها ودعمهن لها معنوياً ومادياً من خلال التعاون بينها وبين إحدى زميلات في تركيا.
أثمر هذا النوع من التعاون والتنسيق بين نساء الداخل والخارج عن إنشاء العديد من المنظمات كمراكز “مزايا” النسائية في ريف إدلب الجنوبي والغربي. وتؤكد غالية الرحال مديرة مراكز “مزايا” النسائية من مدينة كفرنبل على أهمية دعم بعض السوريات بالخارج وتؤكد على التنسيق الدائم فيما بينهن مما أعطى لعملها نوعاً من الاستمرارية في انشاء المركز وفروعه. وتذكر أسماء بعض النساء الداعمات للمشروع كالصحفية زينة رحيم من مدينة إدلب، هنادي من حوران، ويارا نصري ونهى كشه من دمشق. وعن التنسيق الإلكتروني بين نساء الداخل والخارج، تقول أحلام الرشيد (48 عاماً ناشطة سورية من قرية حاس): “نتشارك مع نساء قياديات من الخارج عن طريق السكايب عبر اجتماعات وورش عمل نعملها بشكل دوري لإجراء بعض الدورات لتبادل الآراء وبناء المشاريع الممكنة.”
كان للعمل التطوعي النصيب الأكبر لدى هؤلاء النسوة انطلاقاً من إحساسهن العالي بالمسؤولية وخطورة الوضع، وتوضح أحلام بأن بداياتها كانت بتدريس الطلاب في مخيمات النازحين مجاناً وتأهيلهم لخوض الامتحانات مستعينة في ذلك بشهادتها الجامعية في الأدب العربي بالإضافة الى جلسات التوعية الصحية والاجتماعية والنفسية وقد ساهمت بنفسها في الحد من الزواج المبكر في محيطها حيث تم إيقاف ثلاث حالات. وعلى الصعيد الإنساني ساعدت أحلام النساء النازحات وفاقدي الأطراف من الرجال والنساء بتركيب أطراف صناعية.
لاتزال نجاح سرحان من قرية أحسم (38 عاماً) تداوم بشكل طوعي في مكتب المرأة والطفل الذي انشأته بالتعاون مع مجموعة من النساء المهتمات وعملن على إنشاء فروع له في عدة قرى في جبل الزاوية (كنصفره، المغارة، مرعيان، بلشون كفرحايا، بليون، أحسم). وتشرح “نجاح” آلية العمل: “خصصنا مبلغ 1000 ل. س. من كل واحدة منا شهرياً لتغطية نفقات المكتب، ونحاول من خلاله مناقشة أبرز المشاكل والقضايا التي تهم المرأة في المنطقة وطرح الحلول لها بعدة طرق كتنظيم حملات الحشد والمناصرة لدعم قضية مهمة أو محاربة ظاهرة سلبية.” تعتمد المؤسسة أيضاً على اشتراكات شهرية بقيمة ألف ليرة.
تذكر إيثار عيسى مديرة مركز “مزايا” النسائي في كفرنبل بداية عملهن التطوعي مع مؤسّسة المركزغاليه الرحال: “تجمعنا مع العديد من النساء المهتمات واتفقنا على العمل التطوعي بدون أي مساعدات مادية ولا زلت أذكر كومات الرمل داخل المركز وجدرانه اللبنية بسيطة التجهيز والتعمير، لكن كان يجمعنا الإصرار والتعاون والشعور بحجم الخطر ومواجهته.”
لعبت المحن والمصائب دوراً عكسياً لدى بعض النساء، حيث شكلت الدافع الأساسي للمثابرة والعمل، فبدلاً من الاستسلام للواقع المر والصعب زادت إرادة تلك النساء من عزيمتهن للنهوض من جديد، وكمثال عن ذلك تقول ندى سميع من مدينة إدلب: “حين توفي زوجي لم استسلم بل كان ذلك دافعاً لمساعدة نفسي ومساعدة غيري من الأرامل والمطلقات المتضررات.” وعلى نحوٍ مماثل، تقول نجاح سرحان بأن اعتقال زوجها منذ 2012، كان دافعاً لها لمساعدة نفسها ومساعدة غيرها من النساء بالعمل الدائم والطموح. وتؤكد أحلام الرشيد أيضاً أن استشهاد أخوها في بداية الثورة ونزوحها من بلدتها حاس إلى الحدود التركية بسبب قصف الطيران المدمر لم يزدها إلا إصراراً على بلوغ المراد وأعطاها دفعاً كبيراً الى الأمام ضاعف جهودها بالعمل حيث تقول: “بلغ عدد من دربتهم في مختلف المجالات من خلال دورات في الدعم النفسي والحشد والمناصرة ومهارات التواصل وحماية الطفل ومبادئ العمل الإنساني والزواج المبكر حوالي 4800 متدرب ومتدربة ليصبحوا قادرين على العمل، حيث ساعد هذا التدريب أكثر من 1000 شخص منهم على الحصول على عمل. وعملتُ أيضاً مديرة لـ 16 مركز للنساء والفتيات بمنظمة IRC وفي منظمة الميديكال ريليف فور سيريا وأعمال أخرى.”
تشغل رعاية أفراد العائلة من أبناء ووالدين وأخوة النصيب الأكبر من وقت واهتمام ومسؤولية الكثير من النساء، خاصةً المتضررات منهن. فلم تهمل ندى والديها المسنين وقدمت لهم الرعاية المناسبة بالرغم من كثرة همومها وأعمالها بالإضافة لرعاية أولادها وحرصها الدائم على الاهتمام بهم من خلال توفير كل مايلزمهم. أما نجاح سرحان فتؤكد أنها لم تكن تملك شيئاً حين اعتقل والد أطفالها، لذلك بدأت بإعطاء دروسٍ خصوصية باللغة العربية حتى أصبحت الآن مُدرسة في مدرسة رسمية شمال قريتها احسم، حيث تغطي قسماً كبيراً من مصروف عائلتها. إضافة إلى ذلك تعمل نجاح في مكتب تابع لفريق يدعى “نون النسوة” متخصص بتوثيق الانتهاكات الحقوقية ضد المرأة، وتعتمد فكرة المكتب على توثيق حالات عنف جسدي أو جنسي ضد المرأة وإرسالها لإدارة عمل الفريق العالمي في الخارج، كل ذلك من أجل توفير المصروف الدائم ولقمة عيش شريفة بحسب تعبير نجاح.
على مستوى أسري أضيق ومن وراء الكواليس لا أحد يشعر بجهود سلمى (38 عاماً) من كفرنبل والموظفة في مركز “مزايا” النسائي، فسلمى تعتني بأمها المقعدة والمسنة في الوقت الذي هاجر فيه أخوتها إلى خارج البلد تاركين والدتهم بسبب الأحداث. وتعمل سلمى بنفس الوقت لمساعدة زوجها في توفير مصروف المنزل إضافة إلى عملها التطوعي في مساعدة المحتاجين\ات.
تُصرح غالية الرحال مديرة مركز مزايا من كفرنبل بأنّ طموحاتها لن تقف عند حد معين، وتوضح أنها تسعى مع زميلاتها نحو تمكين المرأة سياسياً: “سنثبت للعالم بأن المرأة السورية قادرة على المشاركة والقيادة في جميع المجالات.” بدأ العمل فعلياً في هذا المجال من خلال دورات تمكين سياسي تعطيها بعض المُدربات في مراكزهن بإشراف منظمات نسائية كمنظمة “بسمة أمل “في ادلب المدينة.
بعد إجراء رحلات قيادية إلى تركيا من قبل بعض المدربات كالمدربة أحلام الرشيد، حصلت بعض النساء السوريات على جوائز عالمية كغالية الرحال التي حصلت عام 2016 على جائزة “المرأة البطلة الثقة” على مستوى العالم من بين 400 مرشحة من 84 دولة في العالم. كما حصلت أحلام الرشيد على تكريم من قناة الـ بي بي سي البريطانية في عام 2017 كونها الأكثر تأثيراً في العالم من بين مئة امرأة متسابقة وتم اختيارها كمشرفة مسؤولة عن مبادرة سفراء الطفولة والسلام في سوريا، بالإضافة إلى حصولها عام2018 على الميدالية الذهبية كونها المرأة الأولى على مستوى الوطن العربي في مجال الإبداع والتغيير والتطوير. تقول “أحلام”: “الحمد لله أننا استطعنا تخريج متفوقين من طين الخيام وكرمنا أفراد خرجوا من بين الركام يستحقون التميز والتكريم، فالإنسان السوري جبار ويستحق الحياة وسنواصل بناء الإنسان قبل بناء الأوطان.”