رولا عثمان
الإبداع الدراميّ في تجسيد كره النساء
في خضمٍ من الأفكار حول المسلسل الجديد الذي كان ينوي تأليفه ولعب دور البطولة فيه؛ وصل أخيراً مؤلف مسلسل “كسر الخواطر” إلى أعظمها، والتي هي إعادة تدوير المخزون الثقافي الكاره للنساء عن طريق عمل اجتماعي كوميدي.
صدر المسلسل عام 2006 وحصد شعبية واسعة، بقيادة عدد من أشهر ممثلي وممثلات سوريا مثل وائل رمضان وأمل عرفة، وبالطبع المؤلف نفسه، محمد أوسو الذي كان يشقّ طريق الشهرة حينها.
إن كان عليّ وصف المسلسل في ذلك الوقت لقلت: “مسلسل يحمل بخفته وظرافته واقعاً قاسياً عن طريق شخصيات تشبهنا وتعيش أحداث حياتنا.” مرّت 16 سنة وأعدت مشاهدة المسلسل بالصدفة، إنما هذه المرّة بعينين جديدتين.
لا تكمن الإشكالية في كون الشخصيات النسائية الرئيسية هي ثانوية في حقيقتها وحسب – كما في معظم الأعمال السورية والعربية فتتواجد لدعم تقديم وتطوُّر الشخصيات الرجالية – بل بانصياعها المُتقَن للرؤية الأخلاقيّة الأبويّة.
تعيش معظم الشخصيات الرئيسية (سَلَطة، مُطيع، فادي، رمزيّة، ومسرّة) في حيّ واحد، وتسعى جميعها لتحقيق طموحاتها الاقتصادية والاجتماعية والعائلية، وبشكل أساسيّ تسعى للزواج بطرقها الخاصة. وضمن هذا الإطار ترتبط الشخصيات ببعضها ضمن علاقات مختلفة، فسَلَطة ومُطيع أخوان، ورمزيّة ومسرّة صديقتان، أما فادي فهو شاب معجب برمزية ويتردد على الحي أحياناً.
تدور الأحداث في مجتمع محافظ يسيطر عليه الرجال ولا تمتلك فيه النساء مساحة حرّة وآمنة لتحديد خياراتهنّ وقراراتهنّ وتنفيذ رغباتهنّ. قد يوحي المسلسل ظاهرياً بأنه يعمل على تفكيك ثغرات تلك المنظومة، إلا أنه في الواقع يتبنّى مبادئها، وبكاميرا ذات عدسة أبويّة عالية الدقة يتم تصوير النساء ضمن نموذجين متضادين، “مسرّة” الطاهرة، و “رمزيّة” العاهرة. بمقابل الشخصيات الرجالية المُتشَبِّعة بنمطية سامّة ولكنها لا تخضع لأيّ تقييم أخلاقيّ.
فعلى سبيل المثال، تتمتّع شخصية “سَلَطة” بصفات وسلوكيات ذكورية فجّة، فهو شاب متحرش، وعنيف، ومتنمّر، ينظر للنساء بدونية ويعتقد أنه وصيّ على “شرفهنّ”، إلا أن جميعها تبدو كتفاصيل ثانوية تضيف الظرافة وخفة الدم لشخصيته الكوميدية والبسيطة، التي تُكافَأْ بالنهاية بالزواج من امرأة “ما باس تمها غير أمها”، ترعاه كطفلها وتعيش معه حياةً راضيةً متجاهلةً عنفه وإساءاته.
لم يكتف المسلسل بالترويج للذكورة السامّة وتقديمها ضمن قالب كوميدي ظريف ومستحبّ، لكن بَرَعَ أيضاً في تعزيز ثقافة الاغتصاب وتطبيع العنف ضد النساء. وذلك عن طريق الثنائيّة المتمثلة بالصديقتين.. رمزيّة ومسرّة.
تعيد شخصية مسرّة تمثيل قصة سندريلا مع اختلاف بعض التفاصيل، فهي شابة ملتزمة قلباً وقالباً بالمعايير التقليدية للمرأة الصالحة. هادئة وذات صوت خافت وكلام متلعثم، ساذجة ولا تعرف ماذا تقرر أو كيف تتصرف، راضية ولا تريد سوى زوج “يستر عليها” دون أي شروط خاصة. تم وصفها مرّة بأنها “ملاك” عندما رفضت إقامة شكوى ضد والدها بعدما أدخلها المستشفى بسبب تعنيفه المستمر لها. تبقى مسرّة ضحية العنف وسوء المعاملة إلى حين وصول أميرها المُنقِذ، مُطيع، الذي تزوج بها وخلَّصَها من حياتها البائسة.
في المقابل، تعمل رمزيّة نحو امتلاك حريتها مُوظِفةً شخصيتها الاجتماعية، والقوية، والطموحة، والشجاعة، وصوتها العالي، وأنوثتها التي تحتفل بها بأسلوبها الخاص. تبحث عن الزواج كباقي الشخصيات، إلا أنها أكثر فاعلية من صديقتها مسرّة فهي لا تنتظر قدوم العريس إلى بيتها بل تنخرط بعلاقات عاطفية بغية استكشاف هذا العالم، ما يُسْقِطُ عنها صفة العفّة بالطبع ويجعلها من المنظار التقليدي، فتاة متلاعبة وطماعة ووقحة لتفوز بلقب الشخصية الشريرة في المسلسل.
فادي أيضاً ينخرط بعلاقة مع رمزيّة إلى جانب علاقته مع خطيبته. إلا أن ذلك لا يجعل منه رجلاً سيئاً بل عاشقاً لم يتمكن من السيطرة على مشاعره. وقع ضحية تلاعب رمزيّة لفترة، ولكن القدر أنقذه أخيراً من مكائدها وكشف له حقيقتها وأهداه زوجة “عفيفة” بالمقابل.
أما رمزيّة، التي تمادت في ممارستها لحريتها الشخصية مُستغِلةً غياب إخوتها الرجال ووفاة والدها فقد استحقت العقاب، فتخسر بالنهاية كلاً من فادي ومُطيع. وتتعرّف على شاب جديد تدعوه لاغتصابها بأفعالها، كما يرى المؤلّف.
نحج المسلسل بالإلمام والترويج لأشهر المفاهيم الذكورية التي تفترض أفضليّة الرجال وتبرئتهم من كل شيء، بمقابل تشييء النساء وتطبيع العنف ضدهنّ ثم لومهنّ عليه وتقييد دور المراقبة والمساءلة. بعد سنوات عديدة، ربما لا نذكر منه سوى هضامة سَلَطة ونكاته، أما الكوارث الأخلاقية السابق ذكرها فتمرّ مرور الكرام دون ملاحظة أو نقد وتنصهر مرّة أخرى بقيم المجتمع ومبادئ جيل كامل، في دائرة لا متناهية. “كسر الخواطر” ليس العمل الدرامي “الناجح” الأول أو الأخير الذي يجسّد كره النساء، وإنما عيّنة قديمة نسبياً من النماذج الكثيرة للدراما السورية التي ما زالت تضخُّ الإبداع.