حملات ترحيل
حملات ترحيل
الترحيل
تسعة شهور مرّت على رحيل زوج هناء (اسم مستعار) من منزله. بداية تم اعتقاله من قبل السلطات التركية بتهمة لم تعرفها حتى الآن، وبعدها تم ترحيله في شهر أيار ٢٠٢٣ إلى سوريا، لتبقى هناء وحيدة في تركيا. ودّعها زوجها بكلمات قليلة موصياً إياها بأطفالهم وأن تصمد من أجل مستقبلهم ودراستهم.
تقول هناء إنه زوجها “يملك كافة الأوراق النظامية من بطاقة حماية صادرة عن الولاية التي تم إلقاء القبض عليه فيها، إلى عنوان منزل وقيد”، لكنّها تعتبر الأمر يعود إلى “رغبة السلطات التركية في ترحيل عدد محدد من اللاجئين دون النظر بشكل جدي إلى أوضاعهم القانونية”، تضيف هناء أنّها قامت بتوكيل محام ودفعت مبلغًا يصل إلى ثلاثين ألف ليرة تركية (ما يقارب ألف ومئة دولار أمريكي حسب سعر الصرف آنذاك) وعلى الرغم من الحصول على قرار بإخلاء سبيله إلّا أنه لم ينفذ وكان المصير هو سوريا، لتتحول بين ليلة وضحاها إلى مسؤولة عن منزل وأربعة أطفال.
تعيش عشرات النساء في تركيا، وخاصة في اسطنبول مصير هناء، يعانون وحيدات مع حملات الترحيل التي تطال مئات اللاجئين ويبقين حائرات بعد ترحيل الأزواج، ماذا سيفعلن؟ ماهو مصيرهن ومصير أطفالهن؟ كيف يتحملن كافة الأعباء المنزلية وأعباء العمل والأطفال والدراسة والمشاكل القانونية فضلاً عن متابعة قضايا أزواجهن؟
تشير المحامية خلود مبارك، العاملة كمستشارة قانونية ضمن مشاريع قانونية للنساء في تركيا، إلى أنّ أقسى التجارب التي تمر بها خلال عملها هي “قضايا ترحيل الأزواج وبقاء الزوجات في تركيا، حيث تواجه النساء هنا العديد من الأمور منها القانونية، وفي حال رغبت بالعودة إلى سوريا والالتحاق بزوجها، فهي لا تستطيع ذلك، إذ تُمنع من قبل سلطات المعبر بدخول الأراضي السورية مع أطفالها دون الحصول على ورقة وكالة من الزوج وهي ورقة يجب أن تكون صادرة ومصدقة في تركيا والزوج غير موجود أصلاً، إضافة إلى العبء المادي الكبير ومصاريف الحياة وتكاليف متابعة الدعوة والتي تتراوح بين عشرين وثلاثين ألف ليرة تركية”.
حسب مبارك إلى أنه وحتى “لو تم اتخاذ القرار (من قبل السلطات المعنيّة) بأن الزوج مظلوم ويجب أن يعود إلى الأراضي التركية، فإنّ القرار لا يُنفذ”.
يبلغ عدد اللاجئين السوريين في تركيا بحسب آخر إحصائية (٢٠٢٣) صادرة عن إدارة الهجرة التركية ٣.٣ مليون يحملون بطاقة الحماية المؤقتة، عاد منهم ٥٥٤.١ ألف سوري إلى بلادهم بطريقة «آمنة وطوعية» وتشكل النساء بحسب المحامية مبارك ٤٦٪ من نسبة هؤلاء اللاجئين .
شنت السلطات التركية حملة تفتيش واسعة على المهاجرين مركزة فيها على المتواجدين في ولاية إسطنبول منذ بداية عام ٢٠٢٣، وأصدرت إدارة الهجرة بياناً حذرت فيه اللاجئين السوريين المقيمين في ولاية إسطنبول والذين يحملون بطاقة حماية مؤقتة صادرة عن غير ولاية بضرورة العودة إلى ولاياتهم وذلك قبل حلول تاريخ ٢٤ أيلول من العام نفسه.
على أثر هذه الحملة تم ترحيل مئات السوريين ممن لم يلتزموا وقرروا البقاء في اسطنبول، وطال التفتيش المنازل وأماكن العمل والمرافق العامة ووسائل النقل، وهو ما أجبر أيضاً مئات آخرين على ترك أعمالهم وبيع أغراضهم وترك منازلهم في اسطنبول والعودة نحو الولايات التي أصدروا منها بطاقة الحماية المؤقتة. عقب ذلك قالت إدارة الهجرة إن حملات مشابهة سوف تطال الولايات التركية الكبرى الأخرى كأنقرة وأزمير. لكن حتى الآن لا توجد إحصائيات حول أعداد السوريين/ات الذين يتم ترحيلهم، ويتم احصائهم تحت مسمى «العودة الطوعية».
الخيمة
تحاول بتول (٢٩ عاماً، أمٌ لثلاثة أطفال) الابتسام خلال حديثها. لقد حرمها زلزال شباط ٢٠٢٣ من حياتها المستقرة نوعاً ما، لتكون ضحية القوانين التركية الصارمة، ولتعجز عن إيجاد بدائل بعد فقدان منزلها، فهي تخرج يومياً من الساعة الخامسة صباحاً حتى الخامسة عصراً من خيمتها التي نصبتها في محيط مدينة أنطاكيا بصحبة أطفالها لتمضي يومها تحت الأشجار القريبة منهم هاربة من الحرّ الشديد داخلها.
تعود عصراً لتحضير الطعام، وقضاء مستلزمات أسرتها والقيام ببعض الأعمال المنزلية، وسط هذه الظروف الصعبة بسبب ارتفاع الحرارة الشديدة وفي ظل عدم توفر الماء والكهرباء والغاز تمر عليها الأيام طويلة وثقيلة. لا أمل في تحسين الحال حاليًا، إذا لا يوجد مكان تذهب إليه بعد أن دُمر منزلها، ورُفض تجديد إذن السفر لها خارج أنطاكيا، إضافة إلى منع السوريين من الحصول على كرفانات داخل المخيمات التي تقام لإيواء الأسر في أنطاكيا بعد دمارها بشكل شبه كامل.
تقول بتول إنّ “هذه القوانين التي تفرض على اللاجئين السوريين العيش ضمن ولاياتهم وعدم التنقل بين الولايات التركية هي التي أجبرتني على عيش هذه المعاناة. كنت قادرة على البقاء في أي ولاية آخرى والعيش مع أسرتي، وقد يتمكن زوجي من الحصول على فرصة للعمل، لكن في حال مخالفتنا لهذه القوانين سوف نحرم من كافة الحقوق التعليمية والطبية، وهناك أيضًا مخاوف من الترحيل، فنحن مجبرون على العيش ضمن ولايتنا التي صدرت عنها بطاقة الحماية المؤقتة الخاصة بنا”.
تروي بتول تفاصيل حياتها اليومية قائلة إنّ “الوضع لم يعد يُحتمل، بشكل يومي هناك حالات إغماء وإسعاف نحو النقاط الطبية من الخيم المنتشرة هنا بشكل عشوائي، وخاصة بين الأطفال”. تعود أسباب حالات الإغماء في أغلبها إلى ظروف الحياة السيئة والحرّ الشديد، فضلاً عن انتشار الحشرات الذي بات يشكّل مصدر خوف وقلق حقيقي من انتشار الأوبئة، وانتشار روائح الجثث في المدينة، والغبار الناجم عن استمرار عمليات الهدم وترحيل الأنقاض. تتساءل بتول: “كيف سيكون الحال في فصل الشتاء؟”.
الزلزال
عادت ريم إلى مدينة أنطاكيا بعد بقائها لخمسة شهور خارجها، وقد فشلت في تجديد إذن السفر بسبب رفض الموظف لذلك وقيامه بطردها من دائرة الهجرة طالباً منها العودة نحو أنطاكيا مع أطفالها على الرغم من أن منزلها الذي كانت تسكنه سابقاً قد هُدم بسبب الزلزال. لم تجد مكاناً للعيش فيه، فبقيت داخل خيمة لعدة أيام في محيط مدينة أنطاكيا ثمّ قررت النوم على باب أحد المخيمات التي أقامتها السلطات التركية على أمل إدخالها ومنحها منزلاً مسبق الصنع. بقيت يوماً كاملاً دون أن تتلق أية مساعدة مع رفض إدخالها، لذلك قررت العودة مجدداً نحو خيمتها، لكنّها لم تجدها، حيث أزالت البلدية الخيمة لأنّهم “يعملون على إزالة الخيم العشوائية وتنظيم السكن والمخيمات”.
“لقد انهرت تماماً عندما لم أجد الخيمة” تقول ريم، “لقد بقينا في الشارع، لا مأوى ولا طعام”.
تُقيم ريم حالياً في غرفة في إحدى المدارس التي تحولت لمركز إيواء في أنطاكيا دون أن تعلم شيئًا عن مستقبلها.
يترتب على الأسر السوريّة التي ترفض العودة نحو ولايتها وهي لا تمتلك إذن سفر للبقاء خارجها عواقب قانونية كثيرة، تتحمل النساء الجزء الأكبر منها، بحسب مايوضح المحامي السوري والعامل في الاستشارات وقضايا اللاجئين في تركيا مالك النجار، أبرزها “حرمان أولادهم من التعليم والالتحاق بالمدارس إضافة إلى الحرمان من الخدمات الطبية والذهاب نحو المستشفيات، كذلك قد يزداد الوضع سوءًا ويصل إلى حد الترحيل إلى سوريا أو العودة إلى ولاياتهم بأفضل حال عند توقيفهم من قبل أي عنصر من البوليس”.
يشير النجّار إلى أن أنطاكيا من أصعب المدن للعيش حالياً، والتي يتم هدمها بالكامل ولا يتوفر فيها مكان للإقامة سوى الكرفانات، وهي مخصصة للأتراك فقط، والسوريين عند تواجدهم في الخيم فهي “غير مؤهلة للعيش”، مضيفاً إلى توافر فرص عمل كثيرة في أعمال الهدم وترحيل الأنقاض ومن ثم البناء مستقبلاً، “لكن جميع هذه الفرص مخصّصة للرجال، ومن المستحيل للنساء أن ينجحن في توفير عمل، وبذلك الوضع يكون كارثياً على المعيلات لأسرهن والتي يقارب عددهن حوالي ٢٥٪ من العائلات المتواجدة، وأغلبهن خسرن مشاريع عملهن السابقة قبل الزلزال من محل تجاري أو عمل بالأعمال اليدوية أو حتى في المطاعم ومعامل النسيج والخياطة والتدريس وغيرها”.
الخوف
تعيش النساء السوريات مع هذه الظروف مخاوف كبيرة، ففي مناطق الزلزال تنتشر الإشاعات بشكل يومي بين الأسر السورية المقيمة في الخيم في ظل عدم معرفة مصيرهم، مع استمرار رفض توضيح مستقبلهم، وأبرز هذه الإشاعات هي ترحيل جميع سكان الخيم نحو الأراضي السوريّة، دون وجود تأكيد لهذه الإشاعة من قبل أيّ جهة.
أم عمر سيدة أربعينية ترتدي ملابس سوداء بشكل دائم، حزينة الملامح وتعيش في أغلب أوقاتها على ذكريات الماضي، هي واحدة من هؤلاء التي تعيش بقلق، فقد سبق وأن فقدت زوجها في قصف لقوات النظام في سوريا، كما خسرت اثنين من ابنائها تحت أنقاض الزلزال في أنطاكيا، وبقي لديها ولد واحد لا تريد أن تعود به مجدداً إلى الحرب في سوريا. تقول أم عمر إنّها تتوجه”بشكل شبه يومي نحو منظمة آفاد المسؤولة عن مساعدة الأسر في حالة الكوارث في تركيا للسؤال عن وضع السوريين وما سوف يقدم لهم، لكنه الموظفين هناك يقول إنّه لن يتم تقديم بيوت مسبقة الصنع للسوريين، ولم يصدر أي قرار حتى الآن يخصهم”.
كانت أم عمر تعمل سابقاً في صنع المونة المنزلية ولديها الكثير من الزبائن إضافة إلى أن ابنها الأكبر الذي فقدته كان يعمل أيضاً و يتدبرون أمور حياتهم. تقول إنّها أصبحت اليوم عاجزة تماماً، “لم أنجح بعد بتخطي فقد أولادي لأكون أمام هذه الظروف، إنّ العيش في الخيمة هو أقسى ما مرتت به حتى الآن”.
الحاجة
توضح رئيسة مجلس إدارة العدالة والتنمية المستدامة العاملة في مدينة الريحانية ضمن ولاية هاتاي، ريم قرامو، أبرز احتياجات النساء السوريا الناجيات من الزلزال خلال الفترة الحالية، معتبرة أن “تأمين مأوى عاجل هو الأهم فضلاً عن تأمين دعم مادي وفرص عمل خصوص لمن هن معيلات لأسرهن”، مشيرة إلى أن هناك أيضاً احتياجات نسائية خاصة.
بحسب قرامو فإنّ النساء في المخيمات “بحاجة إلى دعم نفسي كبير ومساندة نفسية واجتماعية، حيث نرى الكثيرات منهن تحولن إلى نساء عصبيات يعانين من الاكتئاب الحاد والتوتر والقلق والخوف من المستقبل خاصة في ظل الغلاء الحاصل في تركيا والناتج عن ارتفاع الدولار وما يتزامن معه من ارتفاع اسعار إيجارات البيوت أيضاً. جميع هذه الظروف أوصلت النساء إلى حالة صعبة من المعاناة النفسية والتوتر التي جعلتها بحاجة لجلسات دعم نفسي لتخلصها مما هي فيه”.
تحكي قرامو أيضاً عن الاحتياجات الطبية الخاصة، فبعد الزلزال كانت الكثيرات في أشهر حملهن الأولى، والبعض على وشك الولادة، “هذا ما جعلهن بحاجة لعناية طبية مستمرة ومتتابعة، وكذلك الفتيات اللاتي يعانين من الدورة الشهرية وما يرافقها من احتياجات لفوط صحيّة وأدوية مسكنة”.
هذا ما تحدثت عنه بتول أيضاً، “أصعب ما في وضعنا هو حاجاتنا النسائية. لا يوجد شيء يساعدنا بهذا الخصوص. نحن نقيم في خيم عشوائية ونعاني كثيراً عند الدورة الشهرية أو في حالات الحمل والولادة. لا توجد مساعدات نسائية مخصصة لنا”.
ترى المحامية إيمان عبد الكريم أن اللاجئات السوريات يتحولن بلحظة إلى كل شيء في الأسرة جراء الوضع الراهن والقوانين والحملات الامنية الدائمة التي تطال اللاجئين، لذلك “هن بحاجة لدعم قانوني دائم واستشارات مجانية، إضافة إلى توفير فرص عمل حقيقية، ودعم في موضوع الأطفال، وتوفير أماكن آمنة لهم في حال توجب على السيدة التوجه للعمل، لكن الأهم في عمل المنظمات الداعمة للنساء يجب أن يكون متمحورًا حول مواضيع الدعم النفسي وتشكيل حلقات وشبكات التواصل فيما بينهن وإيصال أصواتهن إلى الرأي العام وإلى صناع القرار في المجتمع التركي وإيجاد تواصل بين المنظمات النسائية التركية والسورية لدعم قضايا اللاجئات” .
“نحن نواجه مصيرنا وحيدات. من يهتم لحالنا؟ بلادنا تعاني الحرب ونحن نرزح تحت حمل ثقيل في بلاد اللجوء”، بهذه الكلمات ختمت أم عمر حديثها معنا.