أخذوا بيتي
أخذوا بيتي
عن التغيير الديمغرافي في ريف دمشق
الصحفية: إسلام الأحمد
“تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع “تمكين الجيل القادم من الصحفيات السوريات” بالشراكة بين مؤسسة شبكة الصحفيات السوريات و حكاية ما انحكت بإشراف الصحفية زينة قنواتي. “
في العام ١٩٦٧، وبعد احتلال الجولان السوري، انتقل أبو علي مع عائلته الى دمشق ليتحول إلى نازح في وطنه، وقرر منذ صغره أن يعتمد على نفسه من أجل إعالة أسرته، ليستطيع بعد عشر سنوات من العمل الشاق أن يشتري منزلاً في أحد أحياء السيدة زينب.
بقي أبو علي مستقراً في ريف دمشق ما يقارب خمس وثلاثين سنة استطاع خلالها أن يمتلك محلاً تجارياً قرب مقام السيدة زينب وبيتاً آخر في أحيائها، إلى أن استعرت الحرب في البلاد واضطر في العام ٢٠١٣ إلى النزوح للمرة الثانية، وثم اللجوء إلى دولة مجاورة.
لم يكن يملك أبو علي عندما غادر سوريا أية أوراق تثبت ملكية عقاراته بسبب هربه من مجزرة ارتكبت في منطقة السيدة زينب اثناء تشييع جثمان احد شباب المنطقة في تموز ٢٠١٢. وإذ سعى إلى محاولة إثبات ملكية منزله، لم يصل إلى أيّ نتيجة، ليعلم بعدها في العام ٢٠١٦ أن أحد الميليشيات استقرت في منزله بعد إصلاحه من إصابات القذائف وبعض الاضرار التي كانت قد أصابته.
“عملت وكالة لمحامية داخل سوريا لتقدر تطالعلي رقم العقار، لكن مسّاح المنطقة ما قبل يشوف البيت بسبب تعاونه مع سكان المنزل”، يقول أبو علي.
لا يملك أيّ من سكان المنطقة “طابو أخضر” لمنازلهم ، مما اضطر غالبية السكان إلى دفع فواتير الكهرباء ليحصلوا على وصل إثبات ملكية عقاراتهم. والطابو الأخضر هو وثيقة تُثبت ملكية شخص ما لعقار معين، حيث تكون مختومة عن دائرة السجل العقاري التي تستخدمها في المناطق العقارية التي أثبتت أعمالها.
حسب العديد من الأبحاث، تعتبر منطقة السيدة زينب الواقعة في ريف دمشق الجنوبي من المناطق التي عملت الحكومة السورية مع حليفها الإيراني على “إعادة هندستها ديمغرافياً” تحت ذريعة حماية مقام السيدة زينب الموجود فيها وترسيخ قواعدها العسكرية والاجتماعية.
قوانين تدعم السيطرة على منازل اللاجئين
أصدرت حكومة النظام السوري “التعميم رقم ٤٥٥٤” إلى وزارة الإدارة المحلية في الرابع من آب ٢٠١٥، الذي ينصّ على إلزام السوريين الذين يريدون القيام بعمليات البيع العقارية والإيجار للمنازل والمحال، باستخراج موافقة أمنية من أفرع الأمن
إضافة إلى القانون رقم ١٠ الذي ينصّ على إنشاء مناطق تنظيمية في مدن وبلدات سوريّة مدمّرة غالبية أهلها لاجئون، ووضع مدّة معينة أمام مالكي العقارات في كلّ منطقة يراد تنظيمها، ليأتوا إلى سوريا ويقدّموا إثباتات لعقاراتهم هناك، وهو الأمر الذي يحرم اللاجئين من ملكياتهم.
في أواخر عام ٢٠١٩، أقر مجلس الشعب السوري تعديلاً على قانون خدمة العلم (التجنيد الإجباري) سمح بموجبه للنظام السوري بالسيطرة على عقارات وأملاك السوريين الذين يتخلّفون عن الخدمة العسكرية ولا يدفعون البدل النقدي. عُدّلت الفقرة “هـ” من قانون خدمة العلم، وجاء في التعديل أنّه “يحصَّل بدل فوات الخدمة (عدم الالتحاق) المترتب بذمة المكلف عند تجاوزه سن ٤٢ عاماً وفقاً لقانون جباية الأموال العامة، ويقرر الحجز التنفيذي على أمواله من دون حاجة لإنذاره”.
في أيار ٢٠٢٣ أصدرت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” تقريراً يتناول تبعات القوانين التي أقرتها الحكومة السورية، والتي تمنح الدولة سلطة وضع يدها على أراضي وممتلكات نحو ١٢ مليون سوري ممن فروا من الحرب خلال العقد الأخير، كما حث التقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين على تسليط الضوء على هذه القوانين، باعتبارها إحدى العقبات الرئيسية أمام عودة اللاجئين إلى ديارهم.
“منازل الأمس”
أم رامي، التي تمتلك منزلاً من ثلاثة طوابق في ريف دمشق الجنوبي، اضطرت الى الاستقرار في منطقة أخرى داخل دمشق مع عائلتها بعد إخلاء منطقتها من السكان. لجأت ام رامي إلى الأردن في العام ٢٠١٤ لكنها عادت إلى سوريا بعد سنة واحدة بسبب ترحيل الحكومة الاردنية لابنها الأكبر، نتيجة عمله المخالف في احد المخابز واستقرت في دمشق. تقول أم رامي: “صرلي عشر سنين ما بقدر ادخل منطقتي أو شوف بيتي أنا وولادي، وصلني خبر انو بعض الميليشيات سيطرت عليه وسكنت بطابقين منه وما فيني طالب بخروجهم أو حتى طالب بأجار”.
تعيش أم رامي مستأجرة منزلاً بمبلغ مرتفع في ضواحي دمشق ولا تمتلك أيّ أوراق تثبت ملكية منزلها وذلك بعد خروجها من منطقتها وعدم قدرتها على العودة إليها نتيجة سيطرة الميليشيات عليها. حاولت سابقاً أن تعرض منزلها للبيع بسبب سوء أحوالها المادية، “دفعولي فيه اقل من ربع سعره لأن عارفين ما فيني إرجع للمنطقة وطالب فيه ولا احصل على حجرة منو”، تقول أم رامي.
ابو عمار لاجئ سوري في الأردن كان يعيش في منطقة عسالي في دمشق، وغادرها في العام ٢٠١٢ بسبب مجزرة ارتكبتها الفرقة الرابعة أدت إلى تهجير أهالي المنطقة.
“بيتي مكون من ثلاث طوابق ما عندي صلاحية التصرف فيه رغم امتلاكي طابو اخضر ومنعني النظام من أخذ إذن لترميمه ورغم هيك وصلني خبر قبل شهرين بتهديم منزلي على الأرض بالكامل”، يقول أبو عمار واصفاً حال العقارات في منطقته.
يملك ابو عمار ووالده عدّة بنايات على طريق عسالي، إلّا أنّه لا يملك حق التصرف بها أو بيعها أو تأجيرها على الرغم من صعوبة وضعهم المادي في بلدان اللجوء. “منذ تهجير أهالي منطقة عسالي، لم يسمح النظام السوري بعودة سكانه الى يومنا هذا، وبدأت الفرقة الرابعة منذ ما يقارب السنة بتهديم منازل معظم أهالي المنطقة وعدم السماح لهم ببيعها أو إعطائهم حق التصرف بها” يقول عمار لنا.
إجراءات إثبات ملكية المنازل
يستطيع أصحاب العقارات في المناطق التنظيمية الحصول على مدة ثلاثين يوماً لتقديم وثائق تثبت امتلاكهم للعقارات إلى السلطات المحلية. في حال عدم توفرها، يمكن للمقيمين أو المالكين رفع دعوى في غضون ثلاثين يوماً أمام السلطات المحلية بالاستناد إلى أدلة أخرى. يمكنهم القيام بذلك من خلال الإشارة إلى موقع العقار، حدوده، عدد أسهمهم فيه، النوع القانوني للعقار (تجاري او سكني)، وأيّة معلومات عن أيّة دعاوى قضائية رفعها المدعي أو رُفعت عليه.
عندما يتعذر على المالك تقديم الادعاء بنفسه، يمكن لبعض أقربائه أو وكيله القانوني التقديم عوضاً عنه. على الأقارب إثبات أن المالكين لا يمكنهم تقديم الادعاء بأنفسهم. بالإضافة إلى ذلك، على الوكلاء المعترف بهم قانوناً أن يكونوا معينين من قبل مالكي العقار والحصول على تصاريح أمنية من أحد الأجهزة الأمنية السورية، كما على الأقارب إثبات علاقتهم بالمالك/ة.
إذا لم يقدم المالك المطالبة أو الادعاء خلال ثلاثين يوماً، تعود الملكية إلى البلدة أو الناحية أو المدينة في المنطقة التنظيمية، ولا يتم تعويض المالك. لم يوفر القانون حق الطعن في القرار.
الضغوطات على اللاجئين لإجبارهم على العودة
شهدت الشهور الأخيرة عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية والساحة الدبلوماسية وهو ما أثار مخاوف اللاجئين في الدول المجاورة من إجبارهم على العودة تحت ذريعة “سوريا آمنة”.
في هذا السياق يقول أبو علي إنّه وبعد “عودة النظام لجامعة الدول العربية بلشت المفوضية بتخفيض وقطع المساعدات نهائياً عن اللاجئين داخل وخارج المخيمات دائماً بيحكوا بالعودة الطوعية لكن اللي عم يصير هو استخدام أساليب ضغط وتضييق على اللاجئين بكافة المجالات لإجبارهم على العودة”.
يُذكر أن برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة أعلن في تموز الحالي أن المزيد من التخفيضات في المساعدات الغذائية للاجئين في الأردن أصبحت حتمية بسبب نقص التمويل، حيث سيضطر البرنامج إلى تخفيض قيمة المساعدات الشهرية بمقدار الثلث لجميع اللاجئين السوريين في مخيمي الزعتري والأزرق والبالغ عددهم ١١٩ ألف لاجئ.
ام معتصم ارملة سورية كانت تعيش في منطقة الحجر الأسود في ريف دمشق تقول إنّهم هُجّروا من منطقة الحجر الأسود في الأول من آب ٢٠١٢، وذلك بعد مقتل زوحها بأسبوعين، وانتقلت للعيش في الأردن، ” ببداية ٢٠١٣ وصلنا خبر إنّه البيت انقصف. كنّا ساكنين ببناية انا وبيت حماي وبيتي صار على العظم بسبب القصف والتعفيش”.
تسعى ام معتصم حالياً إلى إعادة إعمار منزلها بأبسط التكاليف، بهدف تأجيره لأحد سكان المنطقة خوفاً من السيطرة عليه. “هذا البيت اللي ضل لأولادي بعد استشهاد أبوهن، عم يشتغلو ولادي لنقدر نأمن مبلغ ستة مليون ليرة لترميم البيت، وأنا سيدة لحالي صعب أتصرف بالعقار أو حول ملكيته لأولادي بالوقت الحالي” هذا ما قالته أم معتصم واصفة صعوبة التصرف في ملكية العقارات في ريف دمشق.
من جهته يقول الصحفي أنس عوض، وهو لاجئ يقيم في تركيا، إنّ الحكومة السورية سعت الى السيطرة على كافة منازل المعارضين لها في بلدة زملكا حيث كان يقيم، “عنا بناية كاملة إحنا وأعمامي، بعد التهجير القسري اللي تم لأهالي زملكا بعتت الحكومة السورية إنذارات بإخلاء العمارة وعام ٢٠١٩ تمت السيطرة عليها واغلاقها بالشمع الأحمر”. يعيش أهل أنس حالياً في شمال البلاد ولا يملكون حق الاعتراض أو حتى حق محاولة استرجاع ممتلكاتهم.
من الناحية القانونية يقول المحامي خالد الحلوإن “٤٠٪ من مدن سوريا هي مناطق عشوائية وغير معدّة للبناء حيث نشأت هذه المناطق بعد احتلال الجولان السوري والاحتلال الفلسطيني، ويعتبر التوصيف القانوني لهذه المناطق «تعدي»، لكن النظام أوقف المخططات التنظيمية لهذه المناطق وبالتالي هو ساهم في ايجادها”.
يعتبر الحلو أنّ “استيلاء الميليشيات على عقارات اللاجئين هو جرم جزائي قانونياً، يمنع صاحب العقار من ممارسة ملكيته على ما يملك مثل حق الاستعمال والبيع والإيجار، ولكن الأخطر من ذلك هو نقل الملكية بدعاوي مزورة بين مغتصب العقار والمالك وهذا ما حصل مع عدد من اللاجئين”.
لا تعد قضية العشوائيات وانتشارها في دمشق ومحيطها جديدة، إذ تقدر أرقام المكتب المركزي للإحصاء في سوريا نسبة السكن العشوائي في البلاد بـ ٥٠٪، مع إقامة ما يقارب ٤٥٪ من سكان دمشق في منازل عشوائيّة ومناطق مخالفات.
توضح دراسة أجرتها منظمة اليوم التالي حول حقوق الملكية وجود ترابط بين عمليات المصالحة والتغيير الديمغرافي، إذ أنّ إخلاء المناطق من سكانها لم يكن تكتيك حربي مؤقت، إنّما بهدف تنفيذ مخططات النظام في إحلال تركيبة سكانية جديدة تطابق تصوراته وحلفائه عن سوريا الجديدة باستخدام البعد الطائفي والمذهبي بصورة جلية.
“وصلتني كتير تهديدات بالقتل من الميليشيات المسيطرة على بيتي”. يقول أبو علي، النازح أولًا من الجولان واللاجئ الحالي من منطقة السيدة زينب، وحاله حال الكثير من اللاجئين السوريين الذين لا يستطيعون الوصول إلى عقاراتهم رغم اختلاف الأسباب.