الصناعة المنزلية للمنظفات في شمال غرب سوريا
الصحافية: غدير الشيخ
“تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع «تمكين الجيل القادم من الصحفيات السوريات» بالشراكة بين مؤسستي «شبكة الصحفيات السوريات» و «حكاية ما انحكت». أُنتجت هذه المادة بإشراف الصحافية مروة الغفري.”
“العالم بتحسدنا على ريحة النظافة يلي بتطلع من بيتنا وما بيعرفوا الأذى يلي عم تتسبب فيه، ياريت لاقي عمل غير هالمهنة حتى ما يحتاج أطفالي دق أبواب الجيران.”
بصوتها المنخفض الذي يقطعه السعال وأنفاسها الطويلة تتحدث أم فاطمة عن مهنة صناعة المنظفات التي تعتمد عليها كوسيلة لكسب رزق عائلتها بعد وفاة زوجها وازدياد المسؤولية على عاتقها. لم تعتقد أم فاطمة التي تعيش في قرية الأبزمو في ريف حلب الغربي رفقة أولادها السبعة، أن عملها في مهنة صناعة مواد التنظيف المنزلية سيؤدي بها إلى أمراض تنفسية قد تتحول إلى أمراض مزمنة لها ولابنتها.
تحكي أم فاطمة لنا عن حادثة إغماء تعرضت لها ابنتها. كانت أم فاطمة قد تركت عبوة مادة تسمى النشادر ذات الرائحة القوية مفتوحة بعد أن استعملتها في صناعة المنظفات دون قصد، “فجأة رأيت ابنتي ملقاة على الأرض ولا تستطيع التنفس، ذهبت عن ذهني تماماً مادة النشادر، شعرت بخوف شديد على ابنتي، كانت تتنفس بصعوبة، خرجت من المنزل أصرخ كي يساعدني الجيران في إسعافها”.
تصنع أم فاطمة كميات كبيرة من مواد التنظيف مثل سائل الجلي والغسيل والكلور في منزلها الصغير، دون أن تعتمد غرفة خاصة لصناعة هذه المنظفات، وذلك بواسطة خلاط يدوي بسبب عدم قدرتها على شراء معدات مخصصة للعمل في هذه المهنة، “استخدم مواد كيميائية في صناعة المنظفات مثل الحمض والقطرونة والكلوروفورم، هذه المواد ذات الروائح القوية أدت لإصابتي بمرض الربو الذي سيرافقني لبقية حياتي.” تقول أم فاطمة.
أضرار صحيّة
“في كل مرة كنت أصنع فيها المنظفات في المنزل أبقى لمدة عشرة أيام أعاني من ضيق في التنفس بسبب الروائح القوية”، تقول مريم (٤٨ عاماً) التي تعيش في بلدة قاح في ريف مدينة إدلب، رفقة عائلتها المكونة من زوج وثلاثة بنات. تنتشر روائح المنظفات القوية في منزلها الصغير الذي بالكاد تصل إليه أشعة الشمس.
تتحدث لنا مريم عن معاناتها التي لا تختلف بقية النساء اللاتي يعتمدن مهنة صناعة المنظفات المنزلية، حيث بدأت بمزاولة هذه المهنة منذ أربع سنوات مع زوجها كمصدر دخل لعائلتها في محاولة لتأمين متطلبات الحياة الضرورية. تتحدث مريم بصوتها المنهك الذي يرافقه لهاثها المستمر بسبب مرض الربو، “أستعمل في صناعة المنظفات القطرونة والمعطرات والنشادر، وأخلط المواد بشكل يدوي بسبب عدم توفر آلة كهربائية، مما يضطرني للمس المواد، فبعض أنواع المنظفات تحتاج إلى تحريك لمدة ساعة أو ساعتين حسب الحاجة مع إضافة المواد بتتابع، الأمر الذي يؤدي إلى انتشار رائحة قوية نتيجة تفاعل المواد”.
ليس مرض الربو فحسب ما تعانيه مريم، بل يتسبب التفاعل الكيميائي للمواد إلى تهيّج جلدي قد يصل إلى تقرحات وتقشر في الجلد، الأمر الذي يضطرها في كل مرة للاستغناء عن جزء من “الغلة” المحدودة أساساً التي تحصل عليها من بيع المنتجات لشراء مرهم طبي لعلاج هذه التقرحات.
تشير مريم إلى براميل كبيرة توجد في زاوية غرفة المعيشة، تحتفظ في داخلها بالمواد المصنعة للمنظفات أو المنتجات قبل تعبئتها، وتقول بحسرة “ننام ونفيق على ريحة المواد. المعيشة غالية، ومافي فرص عمل ولا بديل عن هالمهنة.”
يؤكد اختصاصي الأمراض التنفسية، الدكتور فارس أحمدو، أنّ استنشاق رائحة المواد الكيميائية يتسبب بأضرار كثيرة على جسم الإنسان بشكل عام وخاصة على الجهاز التنفسي، وإذا كانت الكمية المستنشقة كبيرة يمكن أن تتسبب بحالة غياب الإنسان عن الوعي. وينوه إلى أن أهم إجراء يجب اتباعه في حال تعرض الإنسان لاستنشاق رائحة مواد كيميائية وخاصة التي تستخدم في صناعة مواد تنظيف هو إبعاد المريض ونقله إلى مكان نظيف جيد التهوية.
في سياق متصل يوضح السيد مصطفى، الحاصل على شهادة كيمياء تطبيقية من جامعة حلب، أن أغلب تركيبة المواد التي تدخل في صناعة مواد التنظيف تكون خطرة جداً، هذه المواد مثل القطرونة وروح الملح والكلوروفورم، وتؤدي إلى تخرش بالرئة وحروق بالجلد.
يضيف مصطفى أن هذه المواد يجب أن تكون ذات نسب مناسبة دون زيادة أو نقصان، حيث يتم ضبط التركيبة كي لا تكون حمضية أو قلوية، وبالتالي تصيح آمنة ولا يتأثر بها الأشخاص حتى المصابين منهم بأمراض جلدية.
كما يؤكد على ضرورة الالتزام باللباس الخاص بالتصنيع، وهي بدلة مصنوعة من النايلون ووضع كمامة أو قناع وقفازات مخصصة لتحمل المواد الكيميائية، وهي أساليب وقائية عند العمل للحفاظ على صحة وسلامة الجسد.
كذلك يحذّر الدكتور فارس من التصنيع دون معرفة النسب الدقيقة، وتجنّب شراء المنظفات العشوائية مجهولة المصدر والتركيبة.
تبيّن إحصائية للجمعية الطبية السورية الأمريكية (سامز) في مناطق سيطرة المعارضة في سوريا، أنه منذ بداية العام وحتى نهاية تشرين الثاني ٢٠٢٣.، تمّت معالجة ٤٧ حالة تسمم بالأبخرة والغازات، و٢٢١ حالة تسمم بمواد غير معروفة و٣٢٧ حالة نتيجة التسممات الدوائية والمواد الكيميائية الطبية.
ربات بيوت يستخدمن مواد تنظيف منزلية الصنع
بعد سؤال ثلاثين امرأة حول مدى استخدام مواد التنظيف منزلية الصنع ومنتجات أخرى مرخصة، مصنعة ضمن المعامل، تبين أن نسبة ٧٥٪ منهن يعتمدن شراء مواد التنظيف التي يتم تصنيعها صناعة منزلية، أما عن أكثر هذه المنتجات استعمالاً فهي مسحوق الغسيل وسائل الجلي، حيث انتشرت هذه الصناعات نتيجة ظروف الحرب الراهنة وارتفاع أسعار المنظفات بشكل كبير مقارنة بقلة فرص العمل وانتشار البطالة.
وبمقارنة في أسعار مواد التنظيف التي يتم تصنيعها في مصانع مرخصة وأخرى منزلية، تبين أنه يتم بيع سائل الجلي المرخص وذات ماركة معروفة في الأسواق المحلية بقيمة دولار أمريكي واحد، حيث تحتوي العلبة على أقل من كيلوغرام، بينما يتم بيع الكيلو الواحد من سائل الجلي منزلي الصنع بقيمة ٠.٣ دولار.
أما عن مسحوق الغسيل من المنتج المحلي نفسه فكان قيمة كيلوغرامين منه ثلاثة دولارات بينما يباع كيلو غرام مسحوق الغسيل المنزلي بقيمة ٠.٦ دولاراً، وينسحب ذلك على معظم منتجات التنظيف والعناية الشخصية.
هذا ما أكدته السيدة عاتكة القاسم، التي تقيم في بلدة كللي، “أشتري مواد التنظيف منزلية الصنع منذ أكثر من عامين، لأنها أرخص في الثمن، لاحظت أن تأثير مواد غسيل الملابس يختلف من بائع لآخر من حيث فعالية التنظيف”.
تضيف عاتكة أنّها، وعندما تنتهي من تنظيف الأواني، تلاحظ احمراراً وتشققاً في يديها، “كنت أعتقد في البداية أني أُكثر من سائل الجلي بغرض تنظيف الأواني المطبخية بشكل أفضل، إلا أنني بعد أن اعتدت على استخدام قفازات عند غسيل الملابس أو الجلي لتجنب ملامسة مواد التنظيف، عرفت أنها السبب في هذا الاحمرار”.
“فرص عمل وتدريب”
أقامت منظمة “تكافل الشام” مشروعاً خاصاً بالنساء لتعليمهن صناعة مواد التنظيف في مخيم النور، حيث بدأ المشروع في منتصف شهر أيلول من عام ٢٠٢٢ واستمر نحو تسعة أشهر حسب مسؤول المشروع عمر البدوي، الذي يقول لنا إنّه “تم اختيار عشرة نساء ممن ليس لديهن أي خبرة في صناعة المنظفات، وكان معيار الاختيار هو مدى حاجة النساء للحصول على عمل يدر لهن دخلاً مادياً في ظل الظروف المعيشية القاسية. تضمن التدريب على صناعة المنظفات شقين نظري وعملي، وكان فريق العمل مرافق للعاملات بشكل دائم، وبعد الانتهاء من التدريب قامت المنظمة بتأمين المواد والأدوات اللازمة للعمل إضافة إلى اللباس والمواد الأولية والعبوات”.
يشير البدوي إلى المشروع لم يكن تعليمياً فحسب، بل قام فريق المنظمة بمتابعة النساء في عمليات الإنتاج والتعبئة والتسويق بشكل مباشر طيلة فترة المشروع، وحتى بعد الانتهاء منه، تتم المتابعة عن طريق زيارات دورية حسب خطة الانسحاب.
كما تابع الفريق أساليب وإجراءات الأمن والسلامة المتبعة من حيث اختيار موقع الورشة، والذي يجب أن يتمتع بتهوية جيدة، كما تم تزويد النساء بمنظومة طاقة شمسية ومراوح لكل غرفة في الورشة، بالإضافة إلى اللباس الخاص بالعمل وكمامات وقفازات للحماية الشخصية من روائح الكيماويات.
مشروع مصنع صغير
مع غلاء المعيشة وقلّة فرص العمل اتخذ مصعب أكر دكاناً صغيراً في بلدة الأبزمو في ريف حلب الغربي لصنع المنظفات وبيعها، وبحسب قوله إنّ هذه المهنة تحتاج إلى إتقان ودقة في العمل، وقد ورث هذه المهنة عن أخيه .
يرغب مصعب في توسعة هذا الدكان ليصبح لديه مصنعاً لصناعة مواد التنظيف على اختلاف أنواعها، “لأنها مهنة مستمرة ومطلوبة في الأسواق”.
حول المعايير التي يعمل بها في صناعة المنظفات يقول مصعب إنّ “تركيبة مواد التنظيف تكون ذات تاريخ صلاحية، كل مادة لها طريقة في الحفظ، فمثلاً البودرة تحفظ في مكان مرتفع بعيداً عن الرطوبة، كما يتم حفظ السوائل في أماكن غير معرّضة لأشعة الشمس أو البرودة.”
إلا أنه يضطر لتعبئة المنتجات التي يقوم بتصنيعها لسكان المنطقة في أكياس مصنوعة من النايلون، على الرغم من عدم تحمل هذه الأكياس للمواد الكيميائية لفترات طويلة وهي مخصصة للحفظ لفترة مؤقتة إلا أنه بسبب ارتفاع كلفة العبوات المخصصة للمنظفات يلجأ مصعب لها، ويحتفظ بالمواد المصنعة داخل براميل كبيرة الحجم والصلابة.
منافسة المعامل لمنتجات التنظيف المنزلية
خلال جولة قمنا بها لمعامل المنظفات في بلدة تل الكرامة، تبين وجود معمل لصناعة مواد التنظيف بالقرب من منطقة سكنية، حيث كانت رائحة المعطرات منتشرة في المنطقة وعلى مسافة بعيدة. أثناء دخولنا للمعمل لاحظنا وجود أطفال (تحت سن الثامنة عشر) نسبتهم حوالي ١٠٪ يعملون في هذا المصنع، فيما كانت نسبة العاملات حوالي ٥٠٪، في حين لم نلحظ وجود أي وسائل للوقاية يستخدمها العاملون والعاملات؛ لم يرتدوا أيّ نوع من القفازات أو الكمامات أو الملابس الخاصة بهذه المهنة، وتوزعت مهام العمال والعاملات بين التصنيع والتعبئة وتغليف المواد المصنعة ونقل الحمولات لسيارات التوزيع بالمواد الجاهزة.
كما قمنا بزيارة معمل آخر حاصل على ترخيص لصناعة مواد التنظيف في مدينة الدانا. قال لنا السيد وليد وهو مالك المعمل: “نعاني من مشكلة غلاء المواد الأولية التي تباع بالدولار، الأمر الذي يضطرنا في بعض الفترات لبيع المنتجات بمرابح بسيطة لضمان الاستمرار في العمل”.
كما أكّد أنهم يستعملون أقنعة واقية وقفازات عند خلط المواد لحماية العاملين من التفاعلات الكيميائية التي تنتج عن خلط مواد المستخدمة في صناعة المنظفات، “ولكن عندما يتم تعبئة المواد كسائل الجلي أو مواد الغسيل تتم تعبئتها بدون قفازات لأنها غير مضرة وغير قابلة للتفاعل في هذه المرحلة”.
يستخدم وليد علب مخصصة لتعبئة المنتجات من مواد التنظيف، حيث يكتب على هذه العلب اسم المنتج وتاريخ الصلاحية.
يُذكر أنه تنتشر في الأسواق الشعبية والمحلات الصغيرة المئات من علب وأكياس مواد التنظيف منزلية الصنع والتي تخلو من أية ملصقات توضح المواد أو التركيبة التي تحتويها هذه المنظفات، حتى أنها تخلو من تدوين تاريخ الصلاحية، ومع ذلك تجد هذه المواد إقبالاً كبيراً من الناس بسبب سعرها المنخفض مقارنة مع منتجات المعامل الحاصلة على ترخيص.
هذا الإقبال يدفع المزيد للنساء على اعتماد هذه المهنة على الرغم من كل التحديات التي يواجهنها كوسيلة لكسب قوتهن، وهذا ما أكدته فاطمة بوجه يملؤه التفاؤل وبعيون دامعة: “بتبقى ريحة المنظفات أحلى من ريحة الفقر، بالرغم من كل التحديات عم اشتغل على تطوير مهنتي وتقديم منتجات تلبي حاجة الناس، هي ضريبة كل سيدة بدها تعيش بكرامة”.