صراع العيش
صراع العيش
أطفال إدلب أمام خيارين: الأعمال الخطرة أو التسليح
الصحافية:عفراء عبيد
“تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع «تمكين الجيل القادم من الصحفيات السوريات» بالشراكة بين مؤسستي «شبكة الصحفيات السوريات» و «حكاية ما انحكت». أُنتجت هذه المادة بإشراف الصحافية زينة البيطار.”
كان يسعى وراء تحقيق حلمه ككل الأطفال، لكن تردي أوضاع أسرته المعيشية وقسوة ظروفه حالت دون ذلك وقضت على جميع أحلامه. لم يتجاوز محمود العيدو (اسم مستعار) الخامسة عشرة من عمره، نزح مع أسرته من مدينة معرة النعمان جنوبي إدلب إلى مخيم مشهد روحين في شمالها نهاية عام ٢٠١٩، كان يحب مادة الرياضيات ويعشق الأرقام، ويأمل أن يصبح مهندساً، لكنه ترك مدرسته وتخلى عن هدفه، واستبدل الكتب والأقلام بالبندقية بعد تطوعه للقتال في صفوف إحدى الفصائل المتقاتلة، بهدف مساعدة أسرته المعدمة في تأمين بعض النفقات.
محمود هو واحد من مئات الأطفال الذين تركوا مقاعد الدراسة للتجند أو مزاولة أعمال خطرة في محافظة إدلب التي تقع تحت سيطرة فصائل “معارضة”، ويعيش فيها نحو ثلاثة ملايين شخص أوضاعاً أمنية سيئة، وتشهد اشتباكات مستمرة وعمليات قصف من قبل النظام السوري وحلفائه.
أشار بيان عن عمالة الأطفال من قبل فريق “منسقو استجابة سوريا“، نُشر في شهر حزيران من العام ٢٠٢٣ إلى تجاوز عدد الأطفال السوريين المتسريين من العملية التعليمية أكثر من ٢.٥ مليون طفل، أما في مناطق شمال غربي سوريا فقد سجل أكثر من ٣١٨ ألف طفل متسربين من التعليم، وأكثر من ٧٨ ألف طفل في مخيمات النازحين الواقعة شمال غربي سوريا، يشكل ٨٥٪ منهم عاملين في مهن مختلفة بينها مهن خطرة.
حسب البيان فإنّ نسبة التسرب الدراسي والتوجه إلى العمل تبلغ اثنين من كل خمسة أطفال، وسط توقع بارتفاع هذه النسب خلال الأعوام الثلاثة القادمة بسبب المصاعب المستمرة التي يعاني منها المدنيين.
تسليح الأطفال
آلاف الأطفال يتمّ تجنيدهم واستخدامهم في النزاعات المسلحة في جميع أنحاء العالم على أنهم “الجنود الأطفال”. ويعاني هؤلاء الأطفال من أشكال واسعة النطاق من الاستغلال وسوء المعاملة، كذلك في محافظة إدلب شمالي سوريا تقوم “هيئة تحرير الشام” التي تفرض سيطرتها على المنطقة بتشجيع الأطفال على التجنّد في صفوفها، مستغلة سوء أحوالهم المادية، وقلة الفرص والخيارات المتاحة أمامهم.
كشف بيان لفريق “منسقو استجابة سوريا” عن الحدود الاقتصادية للسكان المدنيين في شمال غربي سوريا خلال شهر آب من عام ٢٠٢٣، أن نسبة العائلات الواقعة تحت حد الفقر وصلت إلى ٩٠.٩٣٪ ، ونسبة العائلات التي وصلت حد الجوع إلى ٤٠.٦٧٪، مع تزايد معدلات البطالة بين المدنيين بنسب مرتفعة للغاية، حيث وصلت نسبة البطالة العامة إلى ٨٨.٦٥٪.
الطفل محمود ذو القامة الطويلة والشعر الأشقر تطوّع ضمن فصيل “هيئة تحرير الشام” منذ أكثر من سنة، واعتاد جيرانه أن يرونه بالزي العسكري، وعن سبب تطوعه يقول لنا: “أبي عامل مياوم، وفي كثير من الأحيان لا يجد عملاً، لذا قررت مساعدته من خلال الراتب الذي أتقاضاه بشكل شهري باعتباري الابن الأكبر من الذكور، وعليّ أن أساهم في تدبير نفقات الأسرة”.
يشير محمود إلى أنه، وبعد انتسابه للفصيل، خضع لدورتين شرعيتين تم خلالهما تلقينهم دروساً عن أهمية القتال، وتفضيل الموت على الحياة، إلى جانب تدريبهم على حمل السلاح الفردي والتكتيكات العسكرية المختلفة، منها إطلاق النار الحي وتفجير القنابل، والتعامل مع الألغام وغيرها، مؤكداً أنّ التدريب فيهما كان صعباً للغاية، ثم تم تعيينه للمناوبة في الحراسة على إحدى الجبهات، مؤكداً أن مجموعته المكونة من خمسة عشر عنصراً، تضم طفلين بأعمار مقاربة لعمره.
يقول العيدو إنّه كان في الصف السابع حين ترك المدرسة بدافع العمل، وإنّ “عمله” الحالي خطر للغاية، “حين أترك أهلي وأذهب للحراسة، أشعر أنني أراهم لآخر مرة، ولكن ليس باليد حيلة، والحاجة تجبرني على السعي والعمل، والتخلي عن المدرسة التي كنت متعلقاً بها، والتي أصبحت في هذه الأيام الصعبة حكراً على الميسورين”.
يتقاضى العيدو مبلغ خمسين دولار أمريكي شهرياً جرّاء عمله، وهو “مبلغ قليل وبالكاد يؤمن احتياجات الأسرة الأساسية، لكنها أفضل من لاشيء في ظل الظروف المعيشية المتردية التي نمر بها”.
يتذكر العيدو وفاة زميله، وإصابة اثنين آخرين جراء سقوط قذيفة على مقربة من مكان تواجدهم: “كنا نراقب على إحدى الجبهات حين سقطت قذيفة على بعد أمتار فقط من مكان وجودنا، أصابت شظاياها زميلي وأدت إلى وفاته، إضافة لإصابة اثنين آخرين بجروح، فيما نجوت من الموت بأعجوبة”.
في لقاء لنا مع والدته تحدثت عن أثر التسليح على سلوكيات ولدها، فبعد حمل السلاح صار محمود “عصبي المزاج، يدخن السجائر ويعاند والده باستمرار، كما يعنف أخواته الأصغر سناً، ويمنعهن من الخروج من المنزل، كما أجبر أخته البالغة من العمر ١٦ عاماً على ترك المدرسة والتخلي عن حقها في التعليم بحجة الخوف عليها”.
أشارت الأم إلى أنّ ولدها ترك المنزل بعد خلاف بسيط بينه وبين والده، وغاب لمدة أسبوع كامل اعتقدت خلالها أنه في منزل أحد الأقارب، لكن اتضح أنه انضم إلى فصيل هيئة تحرير الشام، “طلباً للمال والرغبة بالنفوذ والقوة وإرهاب الآخرين بحمل السلاح”.
فيما تمكنت خديجة العدنان (اسم مستعار، ٣٨ عاماً، نازحة من مدينة خان شيخون إلى مدينة إدلب) من إرسال ولدها الوحيد البالغ من العمر ستة عشر عاماً إلى تركيا عبر طرق التهريب، لإيقافه عن عمله في الجنديّة. تقول لنا إنّ أصدقاء ابنها المقاتلين ضمن صفوف هيئة تحرير الشام قد قاموا بإقناع ابنها بضرورة الانضمام إليهم “بهدف كسب المال من جهة والشعور بفرحة النصر على الأعداء من جهة ثانية، ولكنني كنت غير راضية على انضمامه في هذا العمر”.
تقول العدنان إنّها قامت باستدانة المال من أحد أقربائها لإرسال ولدها إلى تركيا وتخليصه من هذا العمل الخطر، فهو “ما يزال صغيراً على حمل السلاح والقتال على الجبهات”.
تذكر العدنان فقر حال أسرتها ومرض زوجها بالسرطان هو ما دفع ولدها لترك المدرسة والبحث عن فرصة عمل لكسب المال. ،تشير خلال حديثها معنا إلى أن هيئة تحرير الشام “تقوم باستغلال حاجة أطفالنا وظروفهم الصعبة لتجنيدهم في القتال تحت لوائها، ولا يحق لنا حتى الاعتراض.”.
باحثون عن الحياة في مهنة الموت
يزاول أطفال إدلب أعمالاً أخرى لا تقل عن التسليح خطورة، منها جمع مخلفات الحرب بهدف بيعها والاستفادة من ثمنها.
يعمل الطفل سعيد الجنيد (١٣ عاماً) الذي نزح مع أسرته من مدينة خان شيخون جنوبي إدلب إلى مدينة إدلب، في جمع الخردوات بما فيها مخلفات الحرب، ويعتبر هذا العمل مصدر رزقه الوحيد. يتحدث الجنيد معنا وقد بدت على وجهه ملامح التعب والإرهاق: “أجوب الشوارع ومكبات القمامة مع اثنين من أصدقائي لجمع كل ما يمكن بيعه، كما نقصد المنازل المهدمة بالقصف والأراضي الزراعية لجمع الحديد، وبقايا القذائف والصواريخ”.
يؤكد الجنيد على أنهم يعثرون أحياناً على قذائف غير منفجرة، أو منفجرة بشكل جزئي، فيحملها إلى أحد المختصين لفصل البارود عن الحديد، وعن ذلك يقول: “أبيع كلاً منهما على حدة، فالحديد لورشات التجميع، فيما أبيع المواد المتفجرة لأصحاب المقالع الذين يستخدمونها في تفجير الصخور والحجارة”. الجنيد أصبح مضطراً لمزاولة هذا العمل بعد وفاة والده بغارة جوية في عام ٢٠٢٠، مما جعله المعيل الوحيد لأمه وأخوته الثلاثة الصغار. والدته تعمل بشكل متقطع في الزراعة، ورغم مرضها بالربو إلا أنها وفي كثير من الأحيان لا تتمكن من شراء الأدوية بسبب الفقر.
يضطر الطفل سعيد الجنيد إلى العمل لأكثر من ١٢ ساعة يومياً، دون أدنى متطلبات السلامة، نتيجة الحاجة لتوفير لقمة العيش، بدلاً من الذهاب إلى المدرسة كباقي الأطفال.
وثق الدفاع المدني السوري خلال عام ٢٠٢٢، اثنين وثلاثين انفجاراً لمخلفات الحرب في شمال غربي سوريا أدت إلى مقتل ٢٩ شخصاً بينهم ١٣ طفلاً، وإصابة ٣١ آخرين بينهم ٢٢ طفلاً وامرأة واحدة. كما أجرت فرق إزالة الذخائر غير المنفجرة في الدفاع المدني السوري أكثر من ١٣٠٠ عملية مسح غير تقني في أكثر من ٤٣٠ منطقة ملوثة بالذخائر، وأزالت ٩٩٠ ذخيرة متنوعة من بينها ٤٣٠ قنبلة عنقودية.
حراقات النفط تحرق أنفاس الأطفال
بوجهه الطفولي الذي انتشرت فيه البقع السوداء وثيابه الرثة التي تنبعث منها رائحة المشتقات النفطية، يتحدث الطفل عبد الله الصطوف (١١ عاماً) النازح من بلدة احسم في جبل الزاوية بريف إدلب إلى بلدة ترحين شمالي حلب: “اضطررت للعمل في هذا المجال (يعمل في حراقة بدائية للنفط) ولساعات طويلة رغم خطورته، لأساعد والدي المسن في الإنفاق على أسرتي المكونة من تسعة أفراد”.
يحلم عبد الله بالعودة إلى لمدرسة التي تركها قبل عامين، “لكنني مجبر على إعالة أهلي بمصروف المنزل”، يقول.
يتولى الصطوف مهمة تنظيف الخزانات من بقايا الوقود بعد تسخينه وعزله، “أنزل إلى خزان التسخين قبل أن يبرد، لأتمكن من استخراج ما علق به من شوائب، رغم ارتفاع درجة الحرارة داخله، والروائح الكريهة التي تنبعث منه”.
يكره الصطوف عمله لأنه تسبّب له بسعال مستمر وضيق في التنفس، كما يتعرض دائماً للعنف اللفظي وسوء المعاملة، مبيناً أنه يتقاضى من صاحب الحراقة مبلغاً بسيطاً لا يتعدى دولارين بشكل يومي، في حين يحصل الأكبر سناً على أربعة دولارات.
أثر العمل الشاق على أجساد الأطفال
تتحدث المختصة بالإرشاد النفسي والمقيمة في إدلب، نور الدغيم عن استغلال النسبة الأكبر من الأطفال خلال عملهم في مهن شاقة ليتقاضوا أجور يوميّة زهيدة، دون الأخذ بعين الاعتبار خطورتها التي قد تصيبهم بأمراض أو حتى تتسبب في وفاتهم. وتؤكد أن أسواق العمل تشكل خطراً على الأطفال، حيث يتم تعنيفهم واستغلالهم وحرمانهم من طفولتهم، ما يعيق قدرتهم على التمتع بحقوقهم الأساسية كالتعليم والتغذية والحماية، “وقد يترك ذلك آثاراً تلازم الطفل بقية حياته على المستوى النفسي والجسدي، إذ من الممكن أن يصبح لدى الطفل سلوكيات عدوانية وحالة من اليأس والإحباط تؤخر نموه النفسي، وتحرمه من أبسط حقوقه”. وتردف أن الطفل يكون في بيئات العمل عرضة لشتى أشكال التنمر والانتهاك كالتحرش الجنسي والاستغلال المادي.
لا يؤثر العمل الشاق على نفسية الأطفال فحسب، بل يتعدى ذلك للمخاطر الصحية والأمراض الجسدية، وهذا ما يؤكده طبيب الأطفال بشار الحسين، المقيم في مدينة الدانا شمالي إدلب، الذي شرح لنا مخاطر عمالة الأطفال قائلاً إنّ “عمالة الأطفال بمهن شاقة في سن مبكر قد تسبب لهم آلام في الظهر والمفاصل، وانقراص في الفقرات، أو مشكلات في الغضاريف، لأن الطفل يكون في مرحلة نمو “. أما الإصابات الناجمة عن مخلفات الحرب فقد وصفها الطبيب بـ”الكارثية” لتسببها بإعاقات دائمة على الأغلب، إذ يؤدي انفجارها إلى الموت أو الإصابة بجروحٍ شديدةٍ قد ينجم عنها تمزقٌ في الأعضاء الداخلية أو بترٌ في الأطراف أو فقدان إحدى الحواس. ويلفت أن العمل في حراقات النفط أو محطات بيع الوقود وغيرها من المهن التي تصدر روائح لمواد كيماوية، فقد تسبّب للطفل أمراضاً تنفسية ورئوية تؤدي إلى أمراض مزمنة تحد من نموه السليم.
دور منظمات المجتمع المدني
تحاول منظمات المجتمع المدني العاملة في شمال سوريا وضع حد لتسرب الأطفال من المدارس واللجوء إلى العمل، إلا أن جهودهم تبوء بالفشل كون العمل على هذه القضية بحاجة لتعاون وتنسيق من كافة الجهات والسلطات التي لا تهتم لأمر الأطفال ومستقبلهم وتحصيلهم العلمي.
مدير مكتب شبكة حراس الطفولة في الداخل السوري، أحمد عرفات، تحدّث لنا عن ظاهرة عمالة الأطفال التي تزداد بشكل يومي: “تعود عمالة الأطفال إلى العديد من الأسباب منها قلة أعداد المدارس في المنطقة على حساب الزيادة السكانية، والتحول التدريجي للتعليم الخاص، فضلاً عن استمرار موجات النزوح والتهجير، والأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تواجه الأهالي في المنطقة، الأمر الذي يدفعهم إلى الزج بأطفالهم في سوق العمل”. ويشير عرفات إلى أنّ الحلول تكمن بتأمين فرص عمل لمقدمي الرعاية، وإنشاء مشاريع صغيرة للأسر التي تعاني من ظروف اقتصادية صعبة، فضلاً عن رفع مستوى التعليم في المنطقة وإتاحته بشكل مجاني لجميع الأطفال، ويبين أن شبكة حراس الطفولة تقوم بعدة إجراءات للحد من انتشار الظاهرة، منها رفع وعي الأهالي بخطورة العمالة وأهمية التعليم، وتمكين بعض الأسر بمشاريع صغيرة، فضلاً عن دعم الأطفال بمستلزمات التعليم وتأمين عودتهم للمدارس.
حين يحمل الأطفال الحقائب ويتوجهون إلى مدارسهم لتحصيل العلم وبناء مستقبلهم، يقصد محمود العيدو ومعظم أطفال إدلب ساحات القتال أو أسواق العمل، لمساعدة أسرهم المعدمة وتأمين لقمة العيش التي صعبتها الحرب، بغض النظر عن مزاولة أعمال خطرة تهدد سلامتهم، وقد يدفعون حياتهم ثمناً لها. اختتم محمود كلامه معنا قائلًا: “رغم انشغالي بعملي الحالي، لا يزال حلم أن أصبح مهندساً يراودني بين الحين والآخر، فهل سيتحقق يوماً، أم سيسبقه الموت الذي بات قريباً مني”.