مثقفون سوريون والهويّة السوريّة
مثقفون سوريون والهويّة السوريّة
الصحافية: محاسن سبع العرب
“تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع «تمكين الجيل القادم من الصحفيات السوريات» بالشراكة بين مؤسستي «شبكة الصحفيات السوريات» و «حكاية ما انحكت». أُنتجت هذه المادة بإشراف الصحافية زينة البيطار.”
“من المبالغة القول، إن هوية سورية جديدة بدأت بالتشكل في المغترب، فالهويات تنشأ بالتراكم مع الزمن”، يقول لنا الروائي فواز حدّاد، ويضيف إلى أنّ الهويّة السوريّة متشكلة وحاضرة، “وهي بتعبير دقيق، كانت مخنوقة، إن لم تكن مغيبة إلى حد ما، فكانت سطحية، لهذا كان ظهورها في الأدب ضعيفاً.”.
يحمل الإنسان حين يغادر أرضه، مع ما يحمله من متاع، هويته، والتي تظهر جليّة في أفكاره وأحلامه ولغة تعبيره عن نفسه. وربما كان التعبير عن الهوية، يأتي بشكل أساسي من خلال التعبير عن الهوية الثقافية سواء أكان ذلك من خلال الموسيقى أو الفن أو الأدب.
واجه الفنانون السوريون تحديات عديدة قبل الثورة، منها تحديات الرقابة مثلًا، لكن بطريقة ما كان هناك تحايل على الرقابة، يقول لنا ذلك التوأم ملص، ويذكران “مسرح الغرفة” كمثال عليه، وكان التوأم ملص، محمد وأحمد، قد أنشآ مسرح الغرفة في بيتهما في منطقة العدوي في دمشق قبل انطلاق الثورة بسنوات، وقدّما فيها عروضاً مسرحيّة “بشكل فردي دون موافقات أمنية، فلم يكن مقص الرقيب يصلنا، إنما عوملنا بالتهميش” يقولان.
بعد انطلاق الثورة في أواسط آذار ٢٠١١، والحرب التي شنها النظام السوري على المعارضين والثائرين، هُجر الملايين من سكان سوريا، ومن جملتهم مثقفون ومثقفات حملوا معهم هوياتهم الثقافية، ليعيدوا زراعتها في الأرض التي حطوا رحالهم فيها.
بعد الثورة أصبحت القضية هي “قضية لاجئين وديكتاتور يتحكم بالوطن” يقول الأخوان ملص، وهما الممثلان المسرحيان المقيمان في فرنسا، واللذان يريان أنّ الأعمال المسرحية هي “جسر بين الماضي والحاضر، والماضي بالنسبة لنا كان موجهاً للسوريين فقط”. يقولان إنّ الحديث عن سوريا يختلف بين الماضي (قبل الثورة) والحاضر (بعد الثورة)، والجسر بين الماضي والحاضر هو العلاقات الإنسانية.
هويّة جديدة؟
“من المبالغة القول، إن هوية سورية جديدة بدأت بالتشكل في المغترب، فالهويات تنشأ بالتراكم مع الزمن”، يقول لنا الروائي فواز حدّاد، ويضيف أنّ الهويّة السوريّة متشكلة وحاضرة، “وهي بتعبير دقيق، كانت مخنوقة، إن لم تكن مغيبة إلى حد ما، فكانت سطحية، لهذا كان ظهورها في الأدب ضعيفاً. بالتالي لا يصح القول إنها ظهرت أو استعيدت، وإنّما تحرّرت من ضغوط القمع والمنع والقهر والعسف، لذلك الإحساس بها كان جلياً، فبدت لنا وكأنها هوية جديدة”.
يقول حدّاد إنّ “الذين في الخارج، من الذين أمضوا ما يزيد عن عشر سنوات في مجتمعات أوروبية، ما زالوا سوريين تماماً، حياتهم وذكرياتهم وأحلامهم معلقة في أماكن نشأتهم، علاماتها واضحة عليهم”، ويضيف قائلاً إنّ ما طرأ على الهوية السورية، هو ازدياد ثرائها وغناها بسبب الاحتكاك مع الآخر، والاطلاع على مظاهر حياة حرّة في الغربة، يهيمن عليها القانون، وفي حال لم يتمكنوا من الاندماج، “فلأنهم أخذوا يتعرفون إلى متطلبات الحياة الجديدة، ولا يستطيعون خلع جلودهم عنهم، ويدركون الشقة الواسعة التي تفصلهم عنها، وليس بالوسع تداركها ولا ردمها بسهولة”.
في المقابل يرى الممثل المسرحي يزن محمد أن الحالة السورية الفنية كانت دائماً على استعداد لنسف الجسور بين الماضي والحاضر. “أنا أتحدث عن المسرح باعتباري ابن هذا الظرف، ولا أجرؤ على سرد حالات عن فنون أخرى خشية الوقوع في الإنقاص وكمقاربة أكثر للمصداقية”، يقول محمد.
يشير محمد إلى أنّ ما قبل “المأساة السوريّة” ليس كما بعدها، ففي الماضي “كان الهاجس الأهم للفنان السوري على الصعيد الشخصي هو تحصيل الاعتراف به فنياً، عربياً وعالمياً، على اعتبار أنه يقف على قاعدة متينة من التاريخ والإرث والرصيد الفني ما يجعل منه/ وما يُفترض من الآخر أن يجعل منه محترفاً”، أما بعد تجربة اللجوء وظروف الشتات فقد أصبحت المسألة عبارة عن “مقاومة للتنكير، وأصبح لزاماً على الفنان أن يعيد التفكير مرة أخرى في حيثيات إعادة بناء ذاك الجسر القديم الذي لم يكن ضمن حساباته فيما مضى”.
إيديولوجيا الفن
“أهمية الفن تكمن في التعبير عن الهوية، كونه لا يحمل إيديولوجيا معينة. يجب أن يتوجه الفنان بأعماله للسوريّ بكافة أطيافه ومعتقداته بدون استثناء وبدون تمييز. لهذا السبب كان الكثير من الأعمال الفنية التابعة للنظام السوري مصيرها الفشل، لأنها كانت موجهة لفئة سورية دون أخرى. لقد كانت الأيديولوجيا واضحة جداً في تلك الأعمال”، يقول التوأم ملص.
هذا الاتجاه (التوجّه بالفن نحو فئة دون أخرى) ظهر أيضاً في الأعمال التي أنتجت بعد العام ٢٠١١، والتي أنتجت تحت مظلة “الثورة السورية”، حسب التوأم ملص، وقد أساءت هذه الأعمال للشكل الفني “لأنها تبنت الفكر والخطاب الإيديولوجي، فعملت على الضرر بالثورة أكثر من إفادتها”.
يقول المسرحي يزن محمد إلى أنّه اليوم، وفي أغلب المنافي أصبح من الضرورة “إعادة إنتاج أغلب الأعمال التي قُدمت سابقاً على خشبات المسارح السورية، وأعمال جديدة بنصوص فردية، لكن هذه المرة بأدوات جديدة أكثر مدنية ووعي، وبهوامش حريات أوسع بكثير مما كانت تضيق قديماً، وبشكل يجعل الحياة أكبر من مجرد مطحنة صنعتها أنظمة تصنع التجميل وتكره الجمال”.
يقول الموسيقي صبحي منير إنّ “للموسيقى والأغاني دور كبير في التعبير عن المشاعر والمواقف خاصة فيما بعد الثورة السورية”، ويشير إلى أنّ الكلمة تؤثر في العقول، أمّا الموسيقى فإنها تؤثر في القلوب والأرواح، “وهنا يكمن دور الموسيقى في توحيد الشعوب وتوحيد الروح الوطنية”.
يتابع منير قوله بأنّ الموسيقيين المنتمين للثورة قد واجهوا تحديات كبيرة بعد خروجهم من سوريا، مثل “كون البلدان المستضيفة للاجئين والمُهجّرين لم تقدم لهم أية تسهيلات لتقديم حفلاتهم وتعريف الشعوب المضيفة بالموسيقى السوريّة”، لكنه يستدرك ويقول إنّ بعض الموسيقيين استطاعوا نقل هويتهم الموسيقيّة “عبر الحفاظ على التراث الموسيقى السوري من خلال تأدية أغان تراثية، كالموشحات، وتعريف الجمهور الغربي بها”.
يعرّف التوأم ملص الفن بأنّه أشياء تُصنع في مقاومة للزمن، فبإمكاننا اليوم مشاهدة أفلام شارلي شابلن بعد مرور عشرات السنوات على إنتاجها، “مهمة الفن هي طرح الأسئلة، لا الأجوبة، والحلول تترك للجمهور” يقولان.
إذن، ربّما نحتاج إلى سنوات طويلة قبل أن نكتشف الهويّة السوريّة الجديدة، لأنّنا بالأصل “محكومون بالزمن”.