وثائقي “سالي القاتلة” كنموذج عن أثر الإعلام على حياة المعنَّفات
وثائقي “سالي القاتلة” كنموذج عن أثر الإعلام على حياة المعنَّفات
عضلات النساء إدانة لهن
الصحفية: مايا البوطي
تنبيه: في هذه المراجعة حرق لأحداث الوثائقي
يدور جدل جوهري في الأوساط الإعلامية المحلية والإقليمية وحتى على مستوى عالمي، حول طرق مقابلة والتعاطي مع الضحايا/ الناجيات من العنف. يأتي هذا، في إطار لمحاولة رأب الصدع الناتج عن تاريخ من الأخطاء الإعلامية تجاه نساء، لم تكد معاناتهن مع العنف تشفى، حتى يجدن أنفسهن في مواجهة عنف الإعلام والمنظومة.
في عدد من المواد الإعلامية من أفلام ومسلسلات، يتم تقديم نماذج تظهر أثر سوء تعاطي الإعلام مع قضايا العنف على النساء المعنَّفات أو الناجيات من العنف، من هنا يمكن التمعن في مسلسل نتفليكس الوثائقي “سالي القاتلة” كنموذج استثنائي ينطلق من قضية جدلية حول قصة قاتلة، لكشف الانحياز الذي تنطوي عليه المنظومة الاجتماعية والقضائية والإعلامية على حد سواء.
لا يركز وثائقي سالي القاتلة على الإعلام وأثره على تطورات قضية سالي في المحكمة فقط، ولكن يمكن البحث في هذه الجزئية للتعلم عبر استرجاعها كواقعة جنائية، كان للإعلام أثر بكيفية تغطيته لها على حياة سالي وعائلتها فيما بعد حتى هذا التاريخ.
من الواقع، وثائقي يعالج قصة قاتلة
مسلسل “سالي القاتلة” هو عمل يناقش قصة جريمة حقيقية ارتكبتها سالي مكنيل بطلة كمال الأجسام، في حق زوجها راي مكنيل بطل كمال الأجسام.، ومن هنا تظهر جدلية هذا الوثائقي وخطورته كونه ينطلق في عرضه بتقديم وجهة نظر القاتلة!
بداية من محاور الجدل المرتبط بالحساسية الإعلامية تجاه الضحايا، ضرورة تجنب إعطاء الجناة مساحة لتقديم وجهات نظر من شأنها منحهم اعتبار يقلل أو يبرر فعل تسبب بجرائم أو بتعنيف الأخريات/الآخرين، لكن يتحدى الوثائقي هذه الشرطية ويقوم بتقديم الطرح من وجهة نظر الجانية، ومع المضي في العمل يتضح السبب الذي دفع لاتخاذ هذا الخيار والذي يبرر هذه المنهجية في العمل الوثائقي.
يبدأ الوثائقي، باستعادة لحظة الجريمة عند اتصال سالي مكنيل بالشرطة لبيان قيامها بإطلاق النار على زوجها، حيث نسمع في خلفية التسجيل عويل ابنتها الخائفة وهي تنظر إلى جثة زوج والدتها ملقاة على الأرض.
منذ الدقائق الأولى، يضعنا الوثائقي في مواجهة مع جريمة مريعة، نتج عنها قتل راي مكنيل، لينتج عن ذلك، جريمة قاسية خسرته فيها عائلته وأصدقاءه ومحبيه من وسط عالم كمال الأجسام، كما ضاعت موهبته التي يتم الحديث عنها خلال الوثائقي.
من هنا يتحول العمل للإجابة عن سؤال أساسي، من هي سالي مكنيل بطلة كمال الأجسام والملقبة ب”سالي القاتلة”؟، حيث تتضمن الحلقة الأولى سرد لعلاقة سالي بزوجها راي وأبنائها وبمهنة كمال الأجسام، ويبين العمل في بدايته التعلق العاطفي لسالي بزوجها وسر انجذابها له.
تفاصيل تعنيف تم تجاهلها في المعالجة الإعلامية للجريمة
يقدم العمل تفاصيل علاقة سالي براي، ولقاءهما أثناء عملهما كمجندين في البحرية، ويتبين تمييز سالي وراي كثنائي يمارس رياضة كمال الأجسام، لكن خارج هذه الثنائية، لا يمتلكان ذات البريق إن كان أحدهما مستقلاً عن الآخر، فراي لم يستطع تحقيق حلمه بأن يصبح بطل كمال أجسام، ولم تستطع سالي تعزيز حضورها كبطلة محترفة أيضاً، ويتبين أن سالي كانت ترهن جهودها لتطور راي، ولتحسين مستواه في رياضة كمال الأجسام. وهذا كان يشكل ضغط عليها، مع كونها أم وربة منزل والشخص المسؤول عن تأمين دخل الأسرة، وتمويل احتياجات وتكاليف رياضة كمال الأجسام لشريكها.
لذا، تُظهر التفاصيل، استغلال راي لزوجته واعتماديته عليها ليصبح نجماً على حسابها، مع التعمق في هذه العلاقة يتضح أن راي كان يعنف زوجته ويضربها ويخونها ويستمر في استغلاله لها.
هذه العلاقة المرضية كانت تسيطر على حياة سالي التي تعجز عن إدراك موقعيتها من هذا العنف، وفي عشية قرار سالي الهرب مع أطفالها والانتقال إلى مدينة أخرى، تحصل مشادة بين راي وزوجته بسبب خيانته لها في أمسية عيد الحب، مع خوفها من عنفه المعتاد وخاصة مع قوته البدنية الهائلة، تسارع سالي أثناء المشادة لإحضار البندقية ولقتله، دفاعاً عن نفسها وخوفاً على أطفالها.
بعد الواقعة، يتم التحقيق مع سالي لساعات دون وجود محامٍ/ية، وتُظهر المقاطع الحقيقية المأخوذة من جلسات مسجلة في مكتب التحقيق، دخول أطفالها عندها باكين وباحثين عن أمل لنجاة والدتهم/ن، بحسب التسجيل، يخبرها ابنها بأنه يتوجب عليهم إطلاق سراحها وخاصة إذا أظهرت لهم آثار تعنيف زوجها عليها.
هنا يتضح مع العودة لهذه التسجيلات أن الأطفال كانوا يتعرضون لأذى نفسي من سماع صراخ والدتهم/ن، وبحسب شهادة ابنها، فقد كان يشعر بالخوف من زوج والدته في كل مرة يعنفها ويعنفهم/ن فيها، إضافة لذلك، تبعاً لشهادة ابنتها، تبين الفتاة محبتها لوالدتها التي تعتبرها انسانة جيدة، لكن ظروفها وتعنيف زوجها لها كانت سبباً في النهاية المريعة التي وصلت لها العائلة.
كون سالي تنتمي لطبقة فقيرة، فقد سعت بشكل مستقل لبناء ذاتها منطلقة من عملها في المارين (التجنيد في البحرية الأمريكية والتي يلتحق بها عادة الفئات الأكثر فقراً)، وبعدها من عملها كعارضة في مجال كمال الأجسام، ويظهر العمل مفهوم التقاطعية التي تعكس أنه ليس بالضرورة كون سالي امرأة بيضاء، بما يترتب عليه من امتلاكها لامتيازات، كفيل بجعلها في موقعية أفضل من زوجها المنحدر من أصول إفريقية أمريكية، على العكس يتبين كيف أثرت مهنتها على نظرة المجتمع لها، وعلى كيفية التعاطي معها، فالوثائقي يستعرض تاريخ رياضة كمال الأجسام في التسعينات، وخاصة مع دخول النساء في هذا المجال، ليظهر إشكالية انخراطهن به وكيفية تعاطي المجتمع معهن.
يتضح بحسب شهادات عدد من المشاركات في الوثائقي، أن مهنة كمال الأجسام لم تكن من المهن المقبولة اجتماعياً للنساء، وقد تم تصنيف هذه الفئة بطريقة تشيئهن، وترخص من إنجازهن الإنساني ومساهمتهن في مهنة يلقى فيها الرجال نوعاً من الدعم والتقدير.
على عكس شهادات أطفال سالي التي تبين استحقاق والدتهم/ن لمحاكمة عادلة كونها سيدة معنَّفة، فقد حرص القضاء على التعاطي مع سالي كقاتلة شرسة، وقاد الإعلام حملة شرسة ضد سالي من خلال تنميطها كسيدة عنيفة تملك القدرة لقتل زوجها، حيث استخدمت المحطات الإعلامية صور لسالي، وهي تصارع الرجال وتستعرض عضلاتها، بطريقة تظهرها كإنسانة لا تمتلك الرقة والعطف.
كما تجاهل الإعلام تاريخ سالي الذي يبين تعرضها للتعنيف على أكثر من صعيد، ومنه علاقتها السامة مع زوجها الذي لم يتوان عن تعنيفها جسدياً، علاوة على ذلك، لم يتم التمعن بتفاصيل حياتها القهرية التي دفعتها للعمل في مهن مختلفة لتأمين قوت عائلتها ولدعم زوجها الاتكالي، حيث استخدم اضطرارها للعمل في عدد من المواد الإعلامية كعارضة كمال أجسام، ضدها في المحاكمة وفي الإعلام.
بناء على ذلك، ساهمت الحملة الإعلامية ضد سالي التي لقبتها ب”سالي القاتلة” بتحيز القضاء ضدها، وبالتعامي عن عدد من الأدلة التي تؤكد على كونها امرأة مُعَنفة. فبحسب القانون تحصل النساء المُعَنَّفات على دعم القضاء في حالة قتلهن لمُعنِفهن، حيث يُعتبر ذلك كدفاع عن النفس، لكن وكون الإعلام أظهر سالي بصورة المرأة القوية، خسرت بالمقابل حقها بدفاع القضاء عنها وبمنحها الاعتراف بكونها تدافع عن نفسها.
أثر التغطيات غير العادلة على مجرى حياة سالي وأطفالها
حرم الإعلام سالي من مساحة تعبر فيها عن قصتها لتبين حجم الإساءات التي تحملتها في علاقتها مع راي، هذه الممارسات السلبية الإعلامية والقضائية تخضع في هذا الوثائقي للفضح ولتحليل معمق، حيث يكشف الوثائقي أن انحياز الإعلام ضد المرأة القوية، كان سبباً رئيسياً في حرمان أطفال سالي من والدتهم/ن.
من الشهادات الصادمة التي وثقها العمل، تأتي شهادة سيدة إعلامية تقدم اعتذاراً لسالي لأن الإعلام لم يكن مستعداً لتفهم وجود امرأة مثلها، والتي رغم مظهرها القوي تخفي قصة تعنيف ومعاناة، هذا الاعتذار يأتي كإدانة لإعلام التسعينات، والذي سعى لكسب المشاهدات من خلال الإثارة والجدل، بالتالي تسبب بهذا الظلم وغياب العدالة لسالي وعائلتها.
ينتهي الوثائقي ببيان أن سالي لم تكن قاتلة، بل كانت إنسانة مُعَنَّفة رفض المجتمع السماح لها بتحصيل حقها وقبول مأساتها كحادثة دفاع عن النفس، كما في الحالات التي تتعرض فيها النساء للعنف المنزلي، فضلاً عن هذا، لم تكن تملك سالي الوعي لفهم شرطية علاقتها مع راي، حيث كانت تتعاطى مع سمية هذه العلاقة، بطريقة تبرر فيها العنف، كما كانت الثقافة السائدة في التسعينات.
نظرة جديدة تجاه قصص الضحايا والناجيات
على عكس تلك الثقافة، يتم بشكل كبير التوعية بمعنى العنف المنزلي ومفهوم الإساءة النفسية في وقتنا الراهن، أو على الأقل ساهمت منصات التواصل بإعطاء النساء مساحة ليواجهن فيها سرديات الإعلام التقليدي الذي يُثبت العرف الأبوي ويساهم بتعزيزه.
يساهم الحراك النسوي بانفتاح المجتمع بشكل أكبر لقبول عمل النساء في مجالات كان قد رفضها سابقاً، فنجد (ترند) النساء اللواتي يعملن لتقوية عضلاتهن منتشراً على منصات التواصل، رغم وجود خطاب كاره لهن يسعى للتعامل معهن كنساء منقوصات الأنوثة إلا أنهن حاضرات شاء من شاء وأبى من أبى.
بالتالي فإن سالي ضحية منظومة إعلامية رفضت قبول صورة النساء القويات، اللواتي كان يتم التشهير بهن، وافتراض أنهن بالضرورة عنيفات أو غير ممثلات للأنوثة التي يفترض بها الضعف، مع البحث المستمر حول سؤال التمثيل في الإعلام ورفض التطبيع مع الصور النمطية بات هناك قبول أكثر للنساء القويات.
يمكن الاستفادة من وثائقي “سالي القاتلة” كنموذج لتعلم كيفية تأثير الإعلام على حياة الناجيات من العنف، كذلك، من المفيد، اتخاذه كعبرة لتجنب استسهال إطلاق الأحكام على الناجيات، والتي من شأنها أن تغير مصائرهن ومصائر أحبتهن/م، وبالتالي غياب العدالة التي هي حق لهن.