ربيع الجنسانية أم خريفها؟ قراءة لمسألة الجنسانية والربيع العربي

فدوى العبود

مع بدايات الربيع العربي حدثت هزات عنيفة أخلاقية واجتماعية وسياسية فما كان يُتداول همساً خرج إلى العلن، كالمطالبة بتحرير المتعة الجنسية، وحقوق المثليين، وحق الكلام فيما كان يُعتبر ثالوثاً محرماً.
خرج الممنوع من رقابة غرف النوم، وسال حبرٌ كثيرٌ في مجال الأدب؛ فظهرت دراساتٌ ورواياتٌ تتناول الحياة الحميمية، وإن لم ترقَ جميعها إلى مرتبة العمل الفني وظلت تدور في إطار الاعتراف بمعناه التطهيري، وقد اتخذت شكل كتاباتٍ صارخة الجرأة تُحاول إعادة الاعتبار للجسد المستلب وتهدف لتحرير المكبوت، وهذا ما يسميه فوكو ” تعرُّف المتعة ” أو متعة معرفتها وعرضها واكتشافها.
في هذا السياق نبتت آمالٌ كثيرةٌ وبشرّ بعض المثقفين ببذور حياةٍ جديدةٍ يتحوّل فيها الخطاب حول الجنس إلى خطابٍ حول حقيقته. وتفاءل البعض إلى حدّ المقارنة بالحركات التي حدثت في أوروبا خلال الستينات من القرن العشرين والتي تحدت تقاليد العصر الفيكتوري الصارمة ودعت إلى إعادة الاعتبار للجنس والعودة إلى الوقت الذي “كانت الأجساد فيه تتبختر”.

إن الجنسانية كحركة اجتماعية -اعتنقها ملايين الشبان الذين تبنوا مذهب الهيبيز (hippie) – قد ارتبطت بشكل أساسي بقوة الحب وجمال الجنس كظاهرة فطرية وطبيعية لا يجب إقسارها، ويدخل في هذا الإطار التطرق إلى دراسة الجنس علمياً في كافة الحقول المعرفية كالاجتماعية والنفسية والمرضية.
يعتقد فيلهلم رايش 1936- 1945 مؤلف كتاب “الثورة الجنسية” التي اشتقت اسمها منه فيما بعد أن “الأخلاق ذات الوجهين تأتي بتشوهات في الشخصية وتفضي إلى العدوان والانغلاق.” ويبدو أنه على الرغم من أن الحديث في الآونة الأخيرة حول الجنس قد تكاثر وتم التطرق له بغزارة فهو رغم ذلك قد “أثار الخوف في كل مكان” بحسب ميشيل فوكو.

الآن وبعد مرور ثمانية أعوام على ما يسمى “بالربيع العربي” يعتقد البعض أننا نشهد ملامح ثورة جنسية بدأت في تجاوز رقابة المنع والتأثيم والسلطة والتأسيس لخطاب يتكئ على الموروث ليستمد منه شرعيته، ويؤسس حقيقته وليثبت أنه ليس مستورداً أو دخيلاً، بل إن المتع واكتشافها والحديث عنها يُستمد من نصوص فقهية ودينية، تؤكد أحقية الجسد في متعته ورفض كل ما يصادر حريته ويستلبها. ويبدو أن هذا الاتجاه يغفل عن قصدٍ أو بغيره عن الجنسانية بمعناها الأشمل بمختلف أبعاده ويدور في فلك تحرير الرغبة وإطلاق العنان للجسد.
هل هناك ثورة جنسانية بمعناها العميق وهل من إمكانية لنجاحها؟
الجنسانية بمفهومها الأعمق، تتجاوز مجرد التحرر الجنسي بمفهومه المقتصر على تحرير المتعة. إنها تتعلق بالحرية الفردية والكرامة الإنسانية المنبثقة من الإيمان بحرية حق الاختيار. لذا فإن المقارنة بين ما يحدث من إخراج للمكبوت على الخارطة العربية وثورة الستينات في أوروبا لا يخرج عن الإطار التبسيطي والمتسرع.
فالجنسانية ليست الجنس بل العلم به، وهي تشمل في جوهرها مجموعة من التطلعات والحقوق كحق الإجهاض، وحق المرأة بالزواج من أجنبي ومنح أبناءها الجنسية، والزواج المدني والنظر بعدالة إلى الحقوق الجنسية وتحرير المثليين وباقي الأقليات الجنسية. وباعتبار أن الحقوق الجنسية والجسدية جزءٌ أساسيٌ من حقوق الإنسان، فيجب أن يكون هناك طموحٌ لصياغة الدساتير والأنظمة بما يتلاءم مع التطلعات والهموم الإنسانية.
إن أحد أسباب إخفاق الربيع العربي يعود لافتقاره إلى حاملٍ ثقافيٍ فهو لم يتعدى ردّ الفعل العفوي، كما أنّ أغلب النخب الثقافية نظرت بعين الريبة لهذه المباغتة التاريخية، واستغلت الفئات المتطرفة خلو الساحة لنشر فكرها الأُحادي، وهناك من حاول استغلال الوضع من النخب السياسية الانتهازية التي لا تملك مشروعاً.
وفي صعيدٍ موازٍ بدأت فكرة تحرير الجنس أو” الحب الحر” تتبلورلدى الكثير من النخب الثقافية العربية دون الانتباه للعوائق التي يحملها المثقف ذاته، ولعل أهمها: النظرة الدونية المترسبة في الوعي المجتمعي عامة نحو المرأة والتي تنعكس في القوانين والدساتير حيث تفتقر المرأة إلى أبسط الحقوق في بعض الدول. وحتى حركة تحريرها كما حدث في بعض الدول العربية جاءت بضغوطات خارجية أوربية لا من سياق داخلي أو وعي والتزام إنساني. ولا ننسى التحرش العلني في ميدان التحرير بالنساء، حيث لم تُعامل المرأة كشريكة إنسانية. والبديهي أن ممارسات التحرش “لا تنتشر دون وجود مؤسسات اجتماعية يسودها خلل في علاقات القوى بين الجنسين لصالح الرجل وعلى حساب المرأة” بحسب الديالمي.
كما أنّ السجينات يتعرضن لاختبارات العذرية حين ينهين مدة سجنهن، عدا عن تقارير مروعة للاغتصاب الجماعي للنساء من جميع الأطراف، كما أنّ حقوق المرأة في الدساتير العربية منقوصة، وحتى وقتٍ قريبٍ مازال القانون الأردني مثلاً يُسقط الحق عن المغتصب إذا تزوّج من ضحيته!
وفي تونس رغم إقرار حقوق كثيرة للنساء لكنها تتمتع بحقوق أقل في الميراث مقارنة مع الأبناء والأزواج، وهناك رهابٌ عامٌ من جنسانية المرأة. وإلى اليوم مازال يُمارس الختان في دولٍ كمصر، فوفقاً لمركز البحث المصري حول التنمية والصحة فإن حوالي 97% من المصريات خضعن للختان ومايُقارب 82% من المصريين يؤيدن هذه الممارسة.
لوحق المثليون والمثليات وهاجر القسم الأكبر إلى أوروبا، كما أنّ العيادات النسائية التي تهتم بالإجهاض وترتيق البكارة تعكس الاضطراب والتكتم والفصام الذي يعيشه الإنسان العربي الساعي إلى الحرية، دون أنّ يعي أهم شروطها وهي قبول الاختلاف واحترام الآخر ونمط عيشه. هذا عدا عن الأصوات التي ترفض التطرق للموضوع وتُعرّض من يتطرق له إلى نوعٍ آخرٍ من الوصاية والرقابة الاجتماعية على الكلمة المكتوبة. ويعكس هذا الارتداد والرقابة الظلامية ومحاصرة حرية الآخر والخوف من الكلمة نزوعاً سلطوياً مشتق من تقاليد الأنظمة العربية التي تكره الكلمة.
تفتقر الجنسانية العربية حالياً كحركة اجتماعية لمشروع وحامل ثقافي، ولا تعدو كونها رد فعل تمردي لا يستند إلى ثقافة نابعة من الذات. وهذا ما يجعلها على غرار حركات اجتماعية كـ”الربيع العربي” بدون أقدام “مكرسحة” وهنا بوعي أو دونه تتدخل آليات القمع في إنتاج جنس لا يتعدى الوظيفة الاستعمالية في ظل مناخ من العدمية والشك واليأس. ويمكن أن يُقرأ ذلك كنكوص إلى ظلامية تشتق مقومات وجودها من ذاتها، لا من أسباب خارجة عنها.
وإذا كان إنسان ما بعد الحرب يبحث بعد إدراكه لعدمية الحياة وعبثها عن الاستمتاع بالحياة فإنّ إنسان ما بعد الثورات محبط، ولا يفكر إلا في استخدام المتاح. إنه إنسان ما بعد الصدمة مشوش، ولا يستطيع سوى أن يكون بديلاً للسلطة ويعيد إنتاج أنظمة القمع بشكل جديد.

المصادر
صالح الديالمي، سيسيولوجيا الجنسانية العربية.
ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانية إرادة المعرفة.
فياتشيسلاف شستا كوف ت. نزار عيون السود، الآيروس والثقافة.