وأدوا طفولتها عند تزويجها.. وبـتحرّرها غسلت “عارهم”
“لم أنظر لنفسي كما ينظر المجتمع للمرأة المنفصلة، كأنها معيبة، ويجب أن تبقى حبيسة الدار وتدخل العدّة لشهور، أو تتزوج وكأنها أجرمت بحقّ نفسها وعليها أن تُغطّي على جريمتها بالزواج من رجل آخر”. هذا ما تقوله شيرين كلش لحكاية ما انحكت، وهي تروي حكاية مواجهتها العادات والتقاليد والعقلية الذكورية بعد أن قررّت إنهاء ظلم طالها منذ الطفولة.
سوسن غنوم
تنشر هذه المادة بالتعاون مع “حكاية ما انحكت“، ضمن برنامج “النساء والسلام والأمن” التابع لمؤسسة شبكة الصحفيات السوريات.
(الحسكة/ القامشلي)، “أتذكر بأنه كان يوم تسلّمي شهادة الصف السابع من المدرسة، حيث كنت وصديقاتي نضحك ونمرح في طريق العودة، وحين وصلت للبيت، رأيتهم يتفقون على تزويجي!”.
ترعْرَعت شيرين كلش (30عاماً) في مدينة الدرباسية شمال وشرقيّ سوريا، ضمن عائلة مكوّنة من أربعة فتيات وشابين، وهي أمّ لأربعة أطفال الآن.
عام 2004، أَقْدَمَ والدها على تزويجها من رجل يكبرها بـ25 عاماً. لم تكن تبلغ حينها عامها الثالث عشر. تروي شيرين لـ حكاية ما انحكت كيف أجبرت على الزواج قائلة: “كنتُ طفلة حين باعوني له، لأنه كان غنيّاً، وكل ماعانيته وأُعانيه حتى الآن سببهُ عائلتي، والدي على وجه الخصوص؛ فهو من غَصَبني على الزواج منه، ولم يُعِرْ اهتماماً كيف سأعيش مع رجل بعمره؟”.
لم يكن الضعف ما مَنَعَ شيرين من الاعتراض على ما طَالَها، بل عادات المجتمع التي تُحَتِّم عليها كَتْم هكذا معاناة، والخوف من ردّة فِعْل الأسرة، وكذلك عدم إنصاف القوانين للمرأة في هذه الحالات، إضافة إلى صِغَر سنّها الذي منعها من اتّخاذ موقف حازم مما تعرّضتْ له من عنف منذ اليوم الأول للزواج دون أن يحرّك أهلها ساكنا، إذ تقول “كنت أشكو لعائلتي العنف الذي أتعرّض له، وأخبرتهم مراراً رغبتي في الانفصال عنه بسبب ضربه المبرح لي” الذي تواصل بمعرفة عائلتها حتى “تسبّب زوجي بكسر فكّي مرةً، بالإضافة لإحدى فقرات ظهري، وكان يضربني على رأسي، ولا زلتُ، إلى الآن، أعاني من آلام نتيجة ذلك”.
أجهضت شيرين قسريّاً عدة مرات “عندما كنت أرفض، كان يضربني بشدة إلى أن أجهض، وحصل ذلك أكثر من ست مرات” وتَصِف ذلك بـ”أبشع ما قاسيته من عنف في زواجي”.
دار المرأة… “لم تنصفني”
“رح تفضحينا بين العالم” كان ردّ والدها عليها بسبب مطالباتها المستمرّة بالانفصال عن زوجها. تقول شيرين لحكاية ما انحكت “كلّ ما كان يخشاه والدي هو “تدنيس” اسم العائلة بطلاقي! حتى يَئِسْتُ من المطالبة بالانفصال، أما أمّي فلم يكن لها حول ولا قوّة أمام تسلّط والدي والعائلة، ومن شدّة حزنها عليّ كانت تطلب مني أن أهرب إلى أيّ مكان فقط لأتخلّص مما أقاسيه من تعنيف كانت تسمع عنه من الجارات”.
بعد وفاة والدتها الذي شكّل نقطة مفصليّة في حياتها، قررّت شيرين مواجهة زوجها وعائلتها، ولجأت بدعوى طلاق إلى دار المرأة في الدرباسية بشمال شرقيّ سوريا، وهي واحدة من مجموعة دور تُعنى بتوفير مأوى للنساء اللواتي يتعرضن للعنف الجسدي والنفسي والجنسي، والمهدَّدات بالقتل بذريعة الشرف، كما تهتم بقضايا الصلح بين الزوجين، وقضايا الطلاق، وتُحيل القضايا التي تستعصي عليها إلى المحكمة.
انفصلَت شيرين عن زوجها عام 2017، بقرار من دار المرأة الذي خيّب أملها على حدّ وصفها، إذ تقول بحسرة “كُنتُ أعتبر الدار ملاذاً آمناً للنساء المعنَّفات والمضطهدات، إلّا أنها لم تنصفني، فجاء قرارها بمنح طليقي حضانة الأطفال، بحجة عدم قدرتي على إعالتهم، وبأني عاطلة عن العمل، ولا أملك مأوى كون عائلتي لا تأويني أيضاً”. وتضيف: “لم أحصل على شيء من حقوقي، وحتى بطاقتي الشخصية التي تركتها في منزل طليقي لم أحصل عليها، فقد أنكر وجودها لديه، فاضطررت أن أستخرج أخرى بدل ضائع عنها، فأين الدار من مساندة النساء؟!”
تشير شيرين إلى أنه “بالرغم من كل التطورات الحاصلة، وريادة المرأة في شمال وشرقيّ سوريا في العديد من المجالات، فهي لا زالت محكومة بالذهنية الذكورية والعادات البالية، ولو قلّ تأثيرها نوعاً ما”.
وللوقوف على رأي قانوني حول هذا الأمر، التقت حكاية ما انحكت المستشارة القانونية لمنظمة سارا لمناهضة العنف ضد المرأة الكائن مركزها بمدينة القامشلي، ندى ملكي، والتي قالت لحكاية ما انحكت أن الجهة القانونية بمنظمة سارا تعمل “كمحامي دفاع عن النساء المعنّفات اللواتي يلجأن إليها، ولكن عملنا يركز بشكل خاص على توعية المرأة وتدريبها”.
وتشير إلى أن هناك الكثير من الدعاوى، وقصة شيرين مثالاً لها، حيث تحكم القضية لصالح الرجل وتغبن حق المرأة فيها، منوهةً حيال ذلك: “لا نستطيع أن نقول بأن القضايا تحكم لصالح الرجال فالحكم يصدر بحسب المعطيات، فمثلاً إذا لم تستطع الأم إعالة أطفالها، بالتالي ستكون الحضانة لصالح الأب”.
العمل ومواجهة المجتمع بدلا من العدّة
تقول شيرين “تخلصتُ من سجّاني، وبتُّ أشعر بحريّتي”. إلّا أنّ ما مرَّتْ به ترك أثراً سلبياً على حياتها “لو كنتُ أكملتُ دراستي الحكومية لربما وجدتُ الآن عملاً دون تكبّد كلّ هذا العناء”. تضيف، ولحبّها الشديد للتعليم فقد دَرَسَتْ قبل انفصالها عن زوجها لمدة سنتين في معهد للغة الكُرديّة تابعٍ للإدارة الذاتية في الدرباسية، وتخرّجتْ منه بتفوّق، لتُخوَّل بذلك تدريس اللغة الكُرديّة لتلاميذ المرحلة الابتدائية. ولكن كانت للمشاكل التي واجهتها مع زوجها السابق آنذاك دَوْرٌ في حرمانها من هذه المهنة بعد سنتين من العمل “على الرغم من أنّي كنت قد قدّمتُ إجازة رسمية في مرحلة انفصالي، لكنّ المدرسة لم تقبل عودتي للعمل، وعَلِمْتُ بعدها بأنّه كان لطليقي دورٌ في منعي من التدريس مجدداً”.
“بعد الانفصال طلبَ منّي كل من حولي أنْ أدخل “العدّة”، ولكنني حطّمتُ الحواجز التي فرضها عَلَيّ المجتمع، وبَدَلَ أنْ أُسْجَن في منزل أبي الذي كان يعتبرني جالبة العار للعائلة، قررتُ العودة للعمل كمدرّسة للغة الكُردية” دون أن تتمكن من ذلك للأسباب التي ذكرت أعلاه.
ولكن هذا لم يدفعها للاستسلام، فتوجهت لمدينة القامشلي بحثاً عن عمل “لم أنظر لنفسي كما ينظر المجتمع للمرأة المنفصلة، كأنها معيبة، ويجب أن تبقى حبيسة الدار وتدخل العدّة لشهور، أو تتزوج وكأنها أجرمت بحقّ نفسها وعليها أن تُغطّي على جريمتها بالزواج من رجل آخر”.
عملت شيرين كمحاسبة في مؤسسة خدمية، واستأجرتْ منزلاً، ولكن بات حِمْلُها الماديّ ثقيلاً، فمن جهة كانت تدفع أجرته، وفي الوقت نفسه تعيل أختها وأخاها الذي يعاني من مشكلة صحية، فعادت مضطرةً لبيت والدها في الدرباسية كي لا تدفع آجار المنزل.
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة
ولكن شعور عدم تقبّل وجودها بالمنزل من قبل والدها لها بحجة سَخَط العشيرة والعائلة عليها، كان يسبّب لها ألماً نفسياً كبيراً، مما دفعها ثانيةً لترك البيت.
تشدّد شيرين قائلةً: “على المرأة أن لا تبقى أسيرة عادات المجتمع، وألا يهمها التفكير الذكوريّ للعائلة، فحينها فقط تستطيع أن تقول إنها امرأة حرة وقوية بذاتها”.
كان كلّما يغلق باب أمام شيرين تتوّجه لآخر، وتَصِف رحلة بحثها عن عمل، قائلة “عملتُ في السلك العسكريّ في وحدات حماية المرأة (مجموعة نسائية كُردية مسلحة، بشمال وشرقيّ سوريا) كمدربة في المجال السياسي للمقاتلات، فكان عملي شاقاً بسبب كثرة التنقل، وبعد فترة وجيزة عانيتُ من مرض بالقلب وأجريت عملية “قثطرة”، ونصحني الأطباء بألّا أعمل في هذا المجال لذا تركت عملي”.
بعد الدرباسية والقامشلي توجهتْ شيرين للعمل هذه المرة في مدينة الحسكة شمال شرقيّ سوريا، وعملتْ بتنظيف المنازل وغسل الصحون في مقهىً هناك، ولكن عادت المشاكل الصحية تلازمها. وبعد الفحوصات تبيّن وجود كيس ماء على الرحم “وأرجعَ الأطباء السبب لعمليات الإجهاض المتكررة حين كنت متزوجة والحمل المبكر، لذا خضعتُ لعملية استئصال هذه الأكياس”.
تتذكّر شيرين، ما عانته في حياتها الزوجية، وتقول: “كنت أُغتَصَب كلّ يوم، ولكن كان يراه المجتمع مباحاً، حيث كان يعنفني كثيراً أثناء الجِماع ويضربني بشكل مبرح”.
النهوض مجددا
تسعى شيرين الآن للبحث عن عمل من جديد، تقول “أريد أن أثبت للمجتمع الذي لم ينصفني بأنني الآن أقوى من ذي قبل” وتضيف “حرموني طفولتي وأطفالي ولازال جسدي يتألم بسبب خوفي منهم في البداية، وضاعت أيام من عمري بالتعنيف والضرب، فلماذا أهتمّ لكلامهم؟”.
بالرغم من القوة البادية على مُحَيّاها، إلا أن حنينها لأطفالها يملأ عينيها بالدموع، وتوضّح بأنّه بين منزل والدها وأطفالها أمتار قليلة فقط، لكنّها لا تستطيع أن تكلّمهم أو تحضنهم، فتقول: “يحدث أن ألتقي بهم صدفة، فيغيرون مسارهم خشيةَ عقاب والدهم، ولا يلقون السلام عَلَيّ وكأنني غريبة عنهم”.
جلّ ما تريده شيرين بحسب كلامها بأن لا يتأثر أطفالها بوالدهم ولا يتعلّمون منه التعنيف والذهنية الذكورية.
تردف قائلة: “أحياناً من يعرفني أو يستمع لقصتي يقول لي أنتِ أخت رجال كمدح لي، ولكنني أقول لهم بل أنا ابنة امرأة”.
وعن إمكانية مساعدتها من قبل المنظمات الموجودة في المنطقة، تقول ندى ملكي: “لا نستطع الحكم على القضية أو حتى مساعدتها، دون أن توكلنا، حينها سنعمل كمنظمة سارا بكل السبل لتحصل هي على حقوقها، فنحن مع أن تكون حضانة الأطفال للأم لاحتياجهم لحنانها واهتمامها، أما بالنسبة للعمل نستطيع التنسيق مع المنظمات النسائية لتأمين العمل لها قدر الإمكان”.
أما شيرين فتختم لنا قائلة أنها لا زالت تتعرض للمضايقات من قِبَل طليقها، ولحدّ الآن لم تتقبّلها عائلتها، ولكنها مصمّمة على ترتيب حياتها والبدء من جديد، حيث تستعيد عافيتها رويداً رويداً، لتعود أقوى من ذي قبل، وتجد عملاً كي تستقر حياتها وتسترد أطفالها.