حاولنا الهرب إلى الحياة فطاردنا الموت على الطريق
زهير الشمالي
(اسم مستعار لصحفي سوري، خريج كلية الحقوق من جامعة حلب، يعمل في مجال الصحافة الالكترونية والمطبوعة مع عدد من الوكالات الأجنبية التي تعنى بالشأن السوري. كان يعيش بين تركيا والشمال السوري لحظة إنجاز هذا التحقيق)
ينشر هذا التحقيق الصحفي في ختام مشروع سوريا في العمق، بالشراكة مع المنظمة الدولية لدعم الإعلام ومؤسسة الغارديان فاونديشن ومؤسسة شبكة الصحفيات السوريات وموقع حكاية ما انحكت.
“كلفتني هذه الرحلة حياة ولدي خالد، حياته التي صمدت في وجه القصف والحصار منذ 2011، مات على الحدود وضاع دمه ولم يعرف من قتله”. هذا ما ترويه لنا نسرين (49 عاما) بالقرب من الحدود التركية السورية، عن “رحلة” التهريب التي أقدمت عليها بحثا عن حياة جديدة توقفت عند الحدود بسبب وقوعها بين براثن المهربين الذين تشبه وعودهم خطوطا كتبت على الماء، رغم التحذيرات الكثيرة التي سمعوها، إذ يقول أبو خالد (زوج نسرين): “لقد حذرونا من كذب المهربين وعدم الثقة بهم، لم يكن لدينا أي بديل. أردنا فقط الخروج بأية طريقة أو ثمن من هنا، لكن لم نعلم أننا لن نطول عنب تركيا، بل ستزداد معاناتنا”.
نسرين وعائلتها هُجّرت من منزلها في الغوطة الشرقية (تم إخلائها بتاريخ آذار 2018) إلى شمال سوريا حيث استأجرت وزوجها محمد وأولادها الثلاثة قريبا من بلدة سلقين عند الحدود السورية التركية.
يعاني معظم قاطني المنطقة من ظروف معيشية صعبة كصعوبة الحصول على سكن ومصدر رزق بسبب انعدام حركة العمل والوضع الأمني المزري في شمال سوريا (تحت سيطرة هيئة تحرير الشام)، الأمر الذي دفعها وعائلتها، للبحث عن حياة وبديل أفضل في تركيا، إذ تقول نسرين (أم خالد) بخيبة أمل وحسرة على الماضي “بعد نقلنا بالباصات الخضر الى الشمال السوري، انتقلنا للعيش في بيت من غرفتين صغيرتين بتكلفة 100 دولار (50.000 ليرة سورية) شهريا، لم يكن لدينا الكثير من المدخرات أو أيّ وسيلة لكسب الرزق والاستمرار في العيش، لذا قرّرنا الخروج والسفر إلى تركيا، أو هذا ما كنّا قد خططنا له”.
لم تكن الأمور معقدة في البداية، فقد كان من السهل جداً العثور على شخص يعنى بأمور التهريب إلى تركيا وبأسعار مختلفة، “بعد أن عقدنا العزم للرحيل، قرّرنا الرحيل واتفقنا مع أحد المهربين لإيصالنا إلى الطرف الآخر من الحدود” كما تقول أم خالد.
تعتبر القرى الحدودية شمال سوريا مكانا مؤقتا لمئات العائلات التي تستقر لفترات متفاوتة قد تصل إلى شهر أو أكثر في محاولتها العبور إلى الطرف التركي. العديد من العائلات حاولت قطع الحدود أكثر من عشر مرات ولم تتمكن من ذلك، بينما تمكنت عائلات أخرى من قطعها من المحاولة الأولى، حسب قول المهرب توفيق (31 عاما)، الذي التقينا به في مكتبه في قرية الدانا شمال إدلب، ويتخذ من مدينة حارم مكانا للسكن والعمل.
تصف أم خالد تجربة التهريب من الحدود، وفي عينها حسرة على ما حصل ويأس من الأيام القادمة في ظلّ القصف المستمر على شمال سوريا: “اجتمعنا في نقطة تسمّى خربة الجوز مع عدد من العائلات، وانطلقنا مع غروب الفجر، وكان من المخطّط أن يطول المسير لساعة أو ساعتين على الأكثر”.
خريطة توضيحية لأماكن انطلاق المهربين وأماكن تجمعهم
تكمل نسرين حديثها بعد تحضير القهوة لنا وكرم ضيافتها رغم الوضع الصعب الذي تعاني منه العائلة والتجربة المريرة التي عاشتها “مشينا طوال الليل في ظلام دامس، لم يسمح لأي أحد أن يشعل حتى سيجارة خوفا من أن تترصدنا مناظير الجندرما التركية. كان بكاء الأطفال وهمس العائلات فيما بينهم بصوت منخفض لا ينقطع، مع صوت المهرب وأوامره للجميع بالسكوت وكم أفواه الأطفال، محذرا أنّ أمرنا سيكشف، طبعا عدا عن السباب والشتائم”.
تتابع قائلة: “كانت تلك الليلة مظلمة جداً، كنّا نمشي ببطء وحذر بين الجبال والأشجار، نصعد تلّة وننزل أخرى. وعندما وصلنا إلى أقرب نقطة من الحدود، سمعنا صرخة مفاجئة، وبعدها إطلاق نار. كل الناس بدأت بالركض، لم أعرف ما أفعل حينها، كان اثنين من أولادي بجانبي، أمسك يدهم مع والدهم، فيما كان خالد قد اختفى في الظلام والفوضى”.
تتابع أم خالد بصوت خافت ووجهها اليائس يمعن في الأرض مما جرى لها ولولدها في رحلة الرعب التي عاشتها “تم نقلنا إلى خيمة حيث تم عزل النساء والرجال، اعتقدت حينها أن خالد في قسم الشباب، لم أعرف ما حصل له حتى عودتي إلى سوريا في اليوم التالي. وبعد اتصالنا بالمهرب الذي اعتقدنا أنه وصل إلى تركيا مع خالد، أخبرنا (المهرّب) بالفاجعة”.
يقول توفيق الذي يعمل في مجال التهريب منذ عدة سنوات، بعد أن كان يعمل على أحد سيارات النقل الداخلي في إدلب، أنّ معظم المهربين يكذبون على الناس ويعرضونهم/ن للمخاطر في رحلة محكوم عليها بالفشل، بعد إغرائهم بالتكلفة الرخيصة والطرق المختصرة والسهلة وصولا إلى تركيا، فـ “عدد كبير من القاطنين في مناطق شمال سوريا من سكانها المحليين انخرطوا في أعمال التهريب وأصبحوا سماسرة”.
أصبح هذا المجال كما يقول توفيق بالعامية “شغلة يلي مالو شغلة”، فمن “من النادر أن ترى أُناسا ثقة لا تضخم الأمر، وتشرح للناس صورة الوضع كاملا وما ينتظرهم/ن خلال رحلة التهريب إلى تركيا”، حسب تعبيره.
وهذا ما حصل مع نسرين التي أكدت عدم صحة المعلومات التي أوردها المهرب الذي تعاملوا معه قبل المضي بالرحلة.
تقول سارة كيالي، باحثة سوريا في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتحقّق في انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي في سوريا في منظمة هيومن رايتس ووتش “أنه خلال سنوات الحرب الأخيرة تمّ استغلال الناس بشكل كبير من قبل تجار البشر بشكل مادي واستغلال حاجتهم للعبور إلى تركيا مقابل تعريضهم إلى مخاطر كبيرة أودت بحياة العديد منهم برصاص حرس الحدود التركي أثناء محاولتهم العبور إلى تركيا”.
خريطة توضيحية للطرق التي سلكتها نسرين وعائلتها وحليمة وأولادها
تضيف كيالي “يتحتم على الدول الحدودية مع سوريا أن تفتح حدودها للمدنيين الهاربين إلى مناطق آمنة، وعدم تركهم على الحدود ليصبحوا ضحية لجشع المهربين وتجار البشر”.
يقول توفيق في حديثه عن المخاطر التي يتعرّض لها مع الناس الذين يعبرون بهم إلى الحدود، بأنّ “بعض الحالات يتم فيها إطلاق النار من الطرف التركي على قوافل الناس، رغم الاتفاق الشفهي الذي يتم بين المهربين والعناصر المرتشية من الجندرما التركية، بحيث يتم لتنسيق عبور القوافل، لكن تتغير في بعض الأحيان، ويؤدي الى تغيّر الاتفاقات أو الخلاف بين الطرفين إلى القبض على قوافل التهريب”.
ويتابع قائلا: “هذه طريق تهريب وليست طريق عبور شرعي من البوابة. هذا ما أقوله للناس حين يأتون لي، أقول سيكون هناك مسير لعدّة ساعات وطريق صعب، دون زيادة أو نقصان، إضافة إلى احتمال الإيقاع بنا من الجندرما أو عبورنا سالمين، كل شيء وارد ومحتمل في هذه الرحلة”. بهذه الكلمات شرح توفيق شكل الإطار العام للرحلة والمخاطر التي من المتوقع مواجهتها لكافة زبائنه.
بسبب كثرة الدوريات الأمنية على الحدود من الطرف التركي، يتبع توفيق بعض الحيل لتجاوز الدوريات مثل “تقسيم الناس إلى قوافل متعددة بمعدل ثلاثين شخصا في كلّ قافلة، تذهب كل قافلة في طريق مختلف، بحيث يتم الإمساك بالبعض والبعض الآخر يعبر بسلام إلى الطرف التركي، ويتم إعادة المحاولة مع الذين تم الإيقاع بهم بعد عدة أيام، وهكذا نعاود المحاولة كل مرة”.
في نيسان 2019 وثقت الشبكة السورية لحقوق الانسان مقتل 422 مدنيا منذ اندلاع الثورة السورية (منهم 76 طفلا دون الثامنة عشر، و38 امراة)، خلال عمليات تهريب البشر بواسطة سلاح الجندرما التركية، إضافة إلى خلافات وصلت إلى الاقتتال والاشتباك بالأسلحة بين الفصائل المدعومة من تركيا لبسط سيطرتهم على طرق التهريب التي تعتبر أحد مصادر الدخل الرئيسي للعديد من الفصائل المقاتلة شمال سوريا التي (حسب توفيق) تنخرط في عمليات التهريب وتتقاضى رشاوي للسماح لعبور قوافل المهربين إلى تركيا.
لكن في حال أراد الناس العبور من سوريا الى تركيا من المعابر الرسمية، يتوجب عليهم الحصول على جواز سفر وأوراق ثبوتية أخرى تختلف باختلاف الهدف من زيارة تركيا.
وحسب موقع معبر باب الهوى الحدودي على الأنترنت يتوجب الحصول على موافقة من الطرف التركي للدخول عبر البوابة الحدودية إلى تركيا، وذلك تحت شروط عدّة من بينها أن يكون العبور: ترانزيت، طالب دراسي في تركيا، لم شمل، موافقة طبيب، إضافة إلى بنود أخرى. وكل من تنطبق عليه الشروط، يحق له أنّ يقدم للحصول على طلب للعبور بشكل شرعي إلى داخل الاراضي التركية.
لكن توفيق يقول لنا أنه قام بإدخال العديد من الأشخاص بدون أوراق ثبوتية أو بجواز سفر منتهي الصلاحية إلى تركيا عبر معبر باب الهوى الحدودي. يقع المعبر قرب مدينة سرمدا الحدودية شمال غرب سوريا، ويعتبر البوابة الرئيسية لحركة عبور قوافل المساعدات والناس من سوريا إلى تركيا وبالعكس.
بدوره، نفى المدير السابق لمعبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، أحمد براد (35 عاما) في حديثه معنا عن طريق الهاتف، أيّة أخبار لعمليات تهريب أو عبور غير نظامي من المعبر، عازيا ذلك إلى التشديد الكبير على المعبر من الجانبين السوري والتركي، ومؤكداً أنه يتم ضبط أعداد كبيرة من حاملي الأوراق المزوّرة الذين يحاولون العبور إلى تركيا من سوريا عبر المعبر، إذ “يوجد تدقيق وإجراءات كثيرة من الجانبين السوري والتركي، خصوصاً للعابرين من الطرف السوري الى تركيا، بحيث يتم أخذ بصمات اليد وصور للوجه والتأكد من صحة الأوراق، سواء كانت فيزا أو تصريح عبور”. وفق قول براد.
ويوضح المدير السابق للمعبر “العديد من الأشخاص تحت التحقيق بتهم تزوير أوراق رسمية والاتجار بالبشر والتحايل عليهم مقابل مبالغ مالية طائلة للعبور بشكل غير شرعي إلى تركيا”.
يتعارض كلام مدير معبر باب الهوى مع تأكيد توفيق أنه “يوجد حتى الآن أشخاص نقوم بالتعامل معهم داخل المعبر لإدخال الناس إلى تركيا مقابل مبالغ تصل أحيانا إلى 5000$ ومتوسط سعر يقدر بـ 3500$”.
لكن أصرّ مدير معبر باب الهوى في نفيه لأي حركة عبور غير شرعي ضمن المعبر مؤكداً “أنّ إدارة المعبر تقوم بما عليها لضمان سلامة ونزاهة العبور وخدمة الناس، والطرف التركي هو المسؤول عن إجراءاته الخاصة بالعبور البري للسوريين بعد أن يقطعوا الطرف السوري، وليس لدينا أي تدخل بالإجراءات التي يقومون بها”.
لا يزال التهريب بشكل عام مشكلة صعبة الحل، ويصعب السيطرة عليها في ظل الوضع السياسي والعسكري الدولي وعدم الاستقرار في المنطقة كلها.
وهذا ما كان عليه الحال بالنسبة لحليمة (42 عاما)، والتي تعمل أحيانا في الخياطة لإعالة أطفالها الثلاثة، وهي من مهجري مدينة حلب. فقدت حليمة زوجها بعد القصف الذي طال حي الفردوس في حلب الشرقية في خريف عام 2016، وتعرّضت ابنتها باسمة لبتر قدمها اليسرى نتيجة القصف.
الأم حليمة, خالد و باسمة خارج المنزل قبل التوجه للحدود. الصورة بواسطة: عبد العزيز قيطاز
عند لقائنا مع حليمة، كانت تستعد للمضي في رحلة تتوقع أن توصلها إلى مكان تعيش فيه مع أولادها بسلام. اتفقت مع أحد المهربين لإيصالها إلى تركيا، بعد عدم تمكنها من الحصول على إذن أو أي استجابة من إدارة معبر باب الهوى لإدخال ابنتها باسمة (١١ سنة) إلى تركيا للحصول على علاج وتركيب قدم اصطناعية، حيث تقول: “حزمنا أمتعتنا وانطلقنا بعد الاتفاق مع أحد المهربين من نقطة قريبة من مدينة حارم الحدودية مع تركيا (شمال غرب سوريا، وتعتبر جزءا من ريف إدلب الشمالي الغربي) بعد أن طمأننا المهرب أنّ رحلتنا لن تطول وسنصل بعد ساعة من المشي لنكمل طريقنا بالسيارة إلى الأراضي التركية”.
باسمة ١١ سنة الصورة بواسطة: عبد العزيز قيطاز
تتابع حليمة وصف رحلة الوصول إلى الحدود التركية “كان ابني الكبير محمد صاحب الخمس عشرة عاما يساعد باسمة على المشي، وحملت مع ابنتي الكبيرة رزان أمتعتنا الشخصية مع قافلة من الناس بلغت حوالي المائة شخص، مشينا في ظلام الليل في أرض زلقة وطين وأشواك، على عكس ما أخبرنا به المهرب من سهولة الطريق وقصره. كل شيء كان كذبا، لكننا أكملنا المسير وكلنا أمل أن نصل في نهاية المطاف إلى تركيا، لكن مع الأسف لم تصل رحلتنا إلى تركيا. قبض علينا حرس الحدود وضربوا كل الرجال محاولين معرفة من هو المهرب الذي يقود القافلة، لكن دون جدوى الحصول على جواب”.
تقول حليمة أنّه تم نقلهم بسيارات عسكرية واحتجازهم في خيمة كبيرة قرب معبر اليمضية مع عائلات أخرى كان قد تم القبض عليها في وقت سابق من الليلة نفسها، إذ “كانت الخيمة في وضع مزري، وكأنه تم وضعنا في بؤرة من القذارة والأوساخ، كانت الرائحة لا تطاق، وبكاء الأطفال مستمر طول الليل إلى أن طلع الصباح، حيث تم جمعنا وأخذ بصمات الجميع، بعدها قادونا سيراً إلى معبر اليمضية الحدودي في سوريا”، وفق قولها.
قرية اليمضية ملاصقة للحدود التركية قرب بلدة يلدا من الطرف التركي، وتعتبر معبرا غير رسمي، تسمح فيها تركيا للفصائل المقاتلة والأطباء وبعض المدنيين بالعبور تحت شروط معينة حسب قول توفيق.
خريطة توضيحية للمعابر بين الحدود السورية التركية
تتابع حليمة “عدت بعدها الى نقطة البداية، إلى المنزل المهدّم الخالي من مقومات المعيشة، حيث القصف والدمار والموت في كل مكان ولا نعرف ما ستؤول إليه المنطقة وما تحمله لنا الأيام القادمة”.
من جهتها، أكدت سارة كيالي المتحدثة باسم هيومن رايتس ووتش، أن اللوم والعبء يقع على المجتمع الدولي للضغط على الدول لإنقاذ الهاربين من الوضع الأمني المزري في شمال سوريا عوضا عن تركهم للاستغلال والموت على الحدود.
تقبع حليمة ونسرين وآلاف العائلات السورية شمال سوريا تحت قصف عنيف غير قادرين على الهرب من آلة القصف الهمجية للنظام السوري والروسي في ظل إغلاق الحدود واستهداف العائلات التي تحاول الهرب من سوريا إلى تركيا بحثا عن حياة آمنة بعيدة عن القهر والموت.