الطريق إلى العدالة المناخية يبدأ من هنا
الطريق إلى العدالة المناخية يبدأ من هنا
عن أحوال اللاجئات السوريات في لبنان في ظلّ التغيرات المناخية
الصحفيّة: ولاء صالح
“تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع «تمكين الجيل القادم من الصحفيات السوريات» بالشراكة بين مؤسستي «شبكة الصحفيات السوريات» و «حكاية ما انحكت». أُنتجت هذه المادة بإشراف الصحافية ميسا صالح”
لا أحد يستطيع أن يُخطئ صوتها، حين تحوّل تدريجياً في السنوات الأخيرة إلى صوتٍ مبحوح مُتعَب، مع صعوبة في التنفس أثناء الحديث لوقت طويل. خلال حديثنا مع ريم (أربعون عاماً، لاجئة سورية مقيمة في لبنان وأم لثلاثة أطفال) توقفنا مرات عدة بسبب سعالها المتكرر و لهاثها المستمر، وخاصّة حين كانت تحكي وتعودُ بذاكرتها إلى الوراء، إلى حمص التي قَدِمَت منها، وإلى سلسلة النزوح من محافظة سورية إلى أخرى بسبب الخراب المستمر الذي لاحق حياتها مما دفعها أخيرًا إلى اللجوء إلى لبنان.
في سوريا، عملت ريم كمعلمة، فيما تعمل في لبنان مع زوجها في إحدى منظمات المجتمع المدني، براتب لا يتجاوز ٣٠٠ دولارٍ أمريكي لكليهما.
في منزلٍ صغيرٍ معدوم التهوية لا تزوره الشمس، تآكلت جدرانه وتعفنّت بسبب الرطوبة، تقيمُ ريم رفقة عائلتها الصغيرة. كلّ تلك العوامل سبّبت لها أمراضاً في الجهاز التنفسي.
غضب الطبيعة
الحرائق في هاواي وكندا والجزائر وتونس، الفيضانات في مناطق مختلفة من العالم، الجفاف في إفريقيا والعراق، موجات الحر القاتلة في أوروبا، كلّها عناوين بدأَ العالم يلتفت إليها بقلق. في منطقتنا كذلك، فبعد أن ظلّت قضايا الكوارث البيئية لا تؤخذ على محمل الجد، أو حتّى لم يُفكّر فيها لسنوات طويلة، لأسباب مختلفة منها انشغال بعض المجتمعات مثل سوريا ولبنان بصراعاتٍ أكثر مرئيّة ودمويّة بين حروبٍ ونزاعاتٍ، وانشغال الكادحين و الكادحات بالبحث وراء لقمة العيش في عصر الانهيار الاقتصادي، بدأت هذه العناوين بتصدر نشرات الأخبار.
تتوقّع منظمة الصحة العالمية أن يُسبّب تغيّر المناخ، في الفترة من الآن وحتى عام ٢٠٥٠ بنحو ٢٥٠ ألف وفاة في كلّ عام بسبب سوء التغذية والملاريا والإسهال والإجهاد الحراري. في هذا السياق يتحدث مارتن إمبسون في كتاب “معنى الثورة في زمن الأزمة البيئية”، عن كيفيّة تضرّر الفئات المُضطهَدة بشدة في ظلّ التغيّرات المناخية تحت وطأة العيش في مناطقٍ أكثر عرضة للتأثيرات الناجمة عن تغيّر المناخ، هذه الآثار غير المتكافئة هي نتيجة للتطوّر التاريخي للرأسمالية العالمية.
يُقدر عدد اللاجئين/ات السوريين/ات في لبنان بحسب آخر تحديثاتِ مفوضية شؤون اللاجئين ٧٩٥,٣٢٢ لاجئ/ة، ٦٩٪ منهم يعيشون دون القدرة على تأمين سلة نفقات الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة أو ما يعرف بـ Survival and Minimum Expenditure Basket in.
من أجلِ نظرة أعمق وأشمل نحو هذا التباين الذي أشار إليه إمبسون، من الضروري أن نلحظ ونُحلّل كيف يمكن للرأسمالية المسؤولة الرئيسة عن التغير المناخي أن تتقاطع مع النظام الإيكولوجي (البيئي) في سياق النزاعات والحروب، مثلاً مع اللجوء. تحديداً في مجتمع اللاجئين السوريين في لبنان الذي يفرض عليهم/ن ذلك اللجوء نمط حياة كاملة حيث تتفاعل فيه الطبقة مع النظام البيئي، ومع كل ما يحتويه أو يعنيه الأخير من مواردٍ وتربة وطاقة وصرف صحي وأمن غذائي.
بحسب تقرير البلاغ الوطني الرابع عن التغير المناخي في لبنان الصادر عن وزارة البيئة ٢٠٢٣، هناك تراجعت تساقطات الأمطار بين عامي ١٩٥٠ و ٢٠٢٠ بمعدل ٠.٥٣ ملم في العقد الواحد، كذلك من المتوقع أن يُسجَّل تراجعٌ في متساقطات الأمطار في لبنان بنسبة ١٠٪ حتى نهاية القرن الحالي.
تتحدث معطيات وزارة البيئة اللبنانية عن حصول ارتفاع في متوسط درجة الحرارة السنوي بمعدل ١.٦ درجة مئوية خلال سبعين عاماً امتدت من ١٩٥٠ إلى ٢٠٢٠. وعليه تفيد السيناريوهات المتوقعة إلى زيادة في متوسط الحرارة من ١.٦ إلى ٢.٢ حتى العام ٢٠٥٠.
أما في الفترة الممتدة بين عامي ٢٠٥٠ إلى ٢١٠٠، فمن المتوقع أن يزيد متوسط درجة الحرارة بحوالي ٤.٤ درجة مئوية، الأمر الذي سيكون أكثر وضوحاً في فصلي الصيف والخريف، وخاصةً في سهل البقاع وأغلب المناطق الساحلية.
المشي تحت الشمس القاتلة
تستخدم ريم المياه التي تأتي من شبكة المياه الحكومية للاستعمال اليومي، تسمعُ أقاويل عن أنّها ملوّثة، لكن شراء المياه المعقمة يقتصر في حال فوجِئت بنوبة الرمل التي تعاني منها منذ خمس سنوات، هذا بسبب غلاء المعيشة ومحاولتها تأمين كافة المتطلبات، والعمل على ترتيب الأولويات. والمياه المُعقّمة هنا ليست في سلّم الأولويات في وضع ريم الاقتصادي.
أُصيبت ريم بمرضي الجيوب والبوليبات الأنفية منذ سنوات، لكن مع ارتفاع درجات الحرارة في الآونة الأخيرة تفاقمت حالتها الصحية. تقول بصوتها المُتعَب:” في رحلتي اليومية إلى عملي، ومع ارتفاع درجات الحرارة، أسيرُ على أقدامي من منزلي إلى مفترق الطريق قرابة سبع دقائق كي استقلّ حافلةً، لا أصل إلى مكان العمل مباشرة، بل أسيرُ لدقائق إضافية أيضاً حتى أصل، في العمل أضطر للتعرّض للشمس نحو ساعتين يومياً، وفي طريق العودة كذلك الأمر، في الحقيقة لا أستطيع تحمّل تكلفة المواصلات، لكن في المقابل تكبر هذه البوليبات، فأضطر إلى تنفس الهواء من فمي وهو هواء في معظمه ملوث، مما يسبب لي سعال شديد ومستمر، ما أدى في نهاية الأمر إلى إصابتي في هبوط الرحم”.
على إثر عمليات الترحيل القسري التي بلغت ذروتها في شهر نيسان الماضي لم يعد يذهب زوجها إلى عمله، “أرغمتُ حينها على العمل بشكل مُكثف، كذلك لم أستطع أخذ إجازة من أجل العلاج، وبالتالي ضاعفتُ ساعات عملي وتعرضتُ للشمس بنسبة أكبر، وعليها انتكس وضعي الصحي بشكل كبير”.
تؤكد الطبيبة النسائيّة راميا مستو وجود ارتباط بين السعال وهبوط الرحم: “يسبّب السعال ضغطاً على الأحشاء الداخلية، وأحياناً يصل أن يكون تأثيره أكبر من الضغط الناجم عن حمل الأوزان الثقيلة، ومع ذلك لا يعتبر السعال مسبّباً أساسي لهبوط الرحم، لكنه قد يسبب زيادة في درجة الهبوط”. كما أشارت الطبيبة أنه في حال عدم العلاج قد تحدث مضاعفات مثل تقرحات والتهابات في عنق الرحم، وجدار المهبل، بالإضافة إلى التهاب المسالك البولية أو اضطراب في العلاقة الجنسية.
في حالة اللاجئين/ات السوريين/ات الذين يشكلون نسبة كبيرة من الطبقة العاملة في لبنان، نجد أنّ اللاجئات السوريات هنّ على الخط الأمامي لمواجهة الكوارث البيئية والتكيّف مع تأثيراتها المرتبطة بارتفاع في درجات الحرارة وقلّة الموارد المائية وتلوثها وانعدام الأمن الغذائي، مع التشديد على اضطرارهنّ لتلبية الأدوار الاجتماعية المناطة بنوعهن الاجتماعي كنساء مثل الإنجاب ورعاية الأطفال وتدبير شؤون المنزل.
ما يمكن أن يُضاف هنا هو أنّ اللاجئات السوريات في لبنان يعايشن ظروفاً قاسية بسبب التهميش المُتعمّد من قِبل السلطات، ففي حالة ريم مثلاً عدم قدرتها على أخذ إجازة مدفوعة للعلاج، و استغلال طاقاتها في العمل مقابل أجور زهيدة وانتكاس حالتها الصحية بسبب اضطرارها للسير والتعرّض لأشعة الشمس بشكل كبير، كل ذلك يعني تهميشاً قانونياً لها متمثلاً بحرمانها من قانون عمل يُؤمّن لها ضماناً صحياً، فضلاً عن عنف مؤسسات الدولة واضطهادها للاجئين/ات، لذلك تؤمن العدالة المناخية وتعترف بالآثار الاجتماعية والاقتصادية لتغير المناخ على الفئات المهمشة وهي بالتأكيد غير متكافئة. في هذا الجانب نذكر خطة وزارة العمل اللبنانية التي أطلقتها “لمكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية”، والتي تحصر عمل السوريين/ات في مزاولة مهن محددة كقطاعي الزراعة والبناء، وكذلك وضع عقبات بيروقراطية أمام استحصالهم/ن أذونات عمل، التي تعد شرطاً أساسياً للعمل ويضاف إلى كل ذلك صعوبة استصدار إقامات صالحة على الأراضي اللبنانية.
إنّ العنف المترتب على التغيرات المناخية لا يقتصر على الآثار المباشرة التي ذُكرت أعلاه، إذ أكدت عدّة دراسات على الارتباط الوثيق بين التغيرات المناخية و العنف القائم على النوع الاجتماعي. إذ ندرة المياه والغذاء قد تؤدي إلى نزاعات مجتمعية على الموارد تتضاعف فيها السلوكيات العنيفة من قبل بعض الرجال.
في تاريخ الكوارث البيئية كانت النساء أكثر عرضة للإصابة أو الموت بمقدار أربعة عشرة مرة مقارنة بالرجال. أظهرت دراسات أنّه في الكوارث الناجمة عن التغيرات المناخية تعرضت النساء للعنف المنزلي المتمثل بعنف الشريك. مثلاً تظهر الأبحاث التي تحلل بيانات ٨٤ ألف امرأة من تسعة عشر استقصاء ديموغرافياً وصحياً في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، أن النساء اللاتي يعشن في ظروف جفاف شديد أكثر عرضة لخطر العنف الجسدي والجنسي من قبل الشريك الحميم.
العيش في كيس من نايلون
ثلاثة أمتار بمترين، وفتحةٍ صغيرة للتهوية تلك الخيمة، ومن بابها نحو حفرة كبيرة تسير فيها مياه الصرف الصحي أقل من مترٍ واحد. ثمان سنوات انقضت دون أيّ تحسين في هيئة الخيمة أو أساسها، الاهتراءُ هو الوصف الأدق لحالتها. يركنُ المطبخ ملاصقاً للحمام بمساحة مشتركة، إذ يفصل تلك المساحة عن خيمتها التي تعيش فيها “شادر”، ما يعني أنّ حُفر الصرف الصحي أيضاً بجوار مكان عيشتها، وهذا حال المُجمّع بشكل عام.
من جبال القلمون، حملت أمل (وهو اسم مستعار اختارته بنفسها، ٥٤ عاماً)، طفلها متوجهةً به نحو عرسال في قضاء بعلبك اللبناني، بسبب الاقتتال الحاصل في القلمون آنذاك. كلّ ما كانت تفكر فيه هو طفلها والنجاة به. استأجرت غرفةً مُعتمدةً على مدخراتها من الحلي الذي جلبته معها من سوريا، ثم بدأت بحياكة الصوف (الكروشيه) وبيع منتوجاتها من أجل العيش. لم يكن الهدف بحسب ما ذكرت أمل الاستقرار في لبنان كلاجئة، أرادت العودة إلى القلمون إلى أرضها التي احتُلّت من قبل حزب الله اللبناني، وفي طريقها للعودة إلى سوريا اعتقلها النظام السوري، “أردتُ ذلك (العودة) كي يستطيع طفلي إكمال دراسته، لكن عندما وصلتُ الحدود السورية تمّ اعتقالي بسبب تشابه أسماء، وبقيتُ معتقلة في أحد الأفرع الأمنية في دمشق قرابة ثلاثة أشهر ونصف، بعد ذلك خرجتُ مقررةً حينها العودة إلى لبنان”.
عندما عادت أمل إلى لبنان لم تستطع استئجار شقة، فاشترت خيمة مستعملة في عرسال، لتصبح تلك الخيمة مسكنها منذ ثمان سنوات ضمن مجمّع يحتوي مئات الخيم الأخرى المتراصفة إلى جانب بعضها. في وصفِ أمل للمساحة التي تعيش فيها، شبهتها “بكيس من نايلون”. كان هذا رداً استنكاريّاً عن سؤالها عن كيفيّة التعامل مع موجات الحر التي ضربت المنطقة منذ فترة قريبة. “مافي شي بيردّ الشوب، أنا ما بسمي هاد المكان خيمة، أنا بعتبره كيس نايلون، وما في كهربا نشغل مروحة، أحياناً فينا نشغلا ثلاث ساعات باليوم أكثر شي”.
بحسب أحد التقارير “تقييم هشاشة اللاجئين السوريين” في لبنان والذي أعدّتهُ مفوضية شؤون اللاجئين، قإنّ ٦١٪ من مساكن السوريين في بعلبك الهرمل هي دون الشروط الإنسانيّة.
لا نُغفل أيضاً السؤال عن مساحات الاسترخاء والتنزّه، فسكان المخيمات القاطنين والقاطنات في السفوح الجبليّة محرومون ومحرومات من مساحاتٍ للتنفس والتنفيس عن هموم الحياة، ففي معرض سرد أمل لحكايتها مع المخيم وعلاقتها مع المكان وتبدلات المناخ وقسوته عليها، حكت عن “كرمة عنب” تقع إلى جانب المخيم، حيث ترى أشجاراً وخضرة وتستشعر بالرطوبة، كمكانٍ للتأمّل وتنفس بعض الهواء النظيف والتفيّؤ بظل هذه الكروم أيام الحرّ الشديد، على نحو يثير شهيتها لزيارة هذا المكان كلّما سمح لهم/ن صاحب الأرض متقلب المزاج بحسب تعبيرها.
سلاماً أيّها الماءُ
على سفحٍ جبلي في أرض قاحلة، تندر فيها المساحات الخضراء، تتجمّع تلك المخيمات متلاصقة ببعضها، وحفر الصرف الصحي مكشوفة للعين، تسير بمحاذاة المخيم. تمتلئ تلك الحفر في بعض الأيام ثم تطفو وتصل إلى المخيمات، لا تُسبّب روائح مؤذية فحسب، بل عانى أهل المخيم من تفشي مرضي الكوليرا والتهاب الكبد. بحسب ما أخبرنا شاويش المخيم في مقابلة أجريناها معه.
حصل هذا بعدما خفضت المؤسسات المعنية بتفريغ حفر الصرف الصحي نسبة شفط المياه، وأصبح الشاويش يجمع مبلغ من كل خيمة، ثم يقومون بتفريغ الحفر وشفط المياه على حساب أهالي المخيمات.
في السنوات الأخيرة، تفاقمت مشكلة محدودية المياه بالنسبة لمجتمع اللاجئين/ات في المخيمات، من مياه الشرب ومياه للاستخدام اليومي بعد أن تضاءلت حصة الفرد من المياه حين دخل قرار منظّمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) بخفض خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة العامّة في مخيّمات اللاجئين السوريّين في لبنان بسبب النقص الحادّ في التمويل، حيّز التنفيذ اعتباراً من شهر تشرين الأول من العام الفائت.
تعقيباً على هذه النقطة، تقول سارة قدورة وهي ناشطة نسوية أنّه و”عندما يتمّ التطرّق إلى أزمة التلوث بالمؤتمرات، غالباً ما يتم لفت النظر إلى اللاجئين كمسببين لا كمتضررين. هناك توجّه لتحميل اللاجئ مسؤولية «المخلفات» كتراكم النفايات، وهذا الحديث هو غريب وعنصري، كونه يغيب عن لبنان بأكمله وجود مسؤولية بيئية. فكيف ستكون أحوال المجتمعات التي تفتقر إلى أدنى البنى التحية تساعدها على التخلص من النفايات؟”.
في السياق ذاته تحدثت سارة عن عرقلة اللاجئين/ات من إنجاز بعض المشاريع مثل مد شبكات صرف صحي، أو بناء غرف من اسمنت عوضاً عن الخيم، وهذا بسبب مخاوف بعض المجموعات السياسية من “توطين” اللاجئين في لبنان، “لذلك نجد هذه الجهات مستعدة لحرمان اللاجئين من حقهم بالعيش بكرامة، والتكيّف مع التغيرات البيئية بطريقة إنسانية وأكثر استدامة”.
تقول لنا أمل: “تبلغ حصتي من مياه الاستخدام٦٠٠ ليتراً شهرياً، لا تكفي للطبخ والغسيل والاستحمام وخاصةً في فصل الصيف، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مياه الشرب حيث نحصل على عشرين ليتر كلّ اثنين وخميس، وفي أغلب الأحيان لا تكفي فنقوم بالشرب من مياه الاستعمال اليومي”.
يعاني اللاجئون/ات من قلة المياه للشرب أو الاستخدام اليومي، ما يجعل آلياتهم للتكيف على قلة الموارد المائية مجهدة، ومربكة. إذ تضطر أمل إلى الاستيقاظ صباحاً والمشي في حر الشمس للوصول إلى نقطة تعبئة المياه، تعبئ حصتها من المياه ثم تعود أدراجها نحو خيمتها.
قبل عام أصيبت أمل بجلطة في قدمها ويدها، قالت إنّها تتعالج، لكن ارتفاع ضغط دمها مستمر، مسبباً لها الإجهاد: “حتى كانت الدني شتي وعواصف، إذا أنا ما عبيت مي بنفسي، مارح يوصلني مي، مجبورة على هالشي “.
نظم تكيّف بيئية بديلة
“بحسّ جسمي بينشلّ بالشوب، أقول ليتني أرجع على بيتي بالقلمون، على القليلة في شباك أتهوى، الخيمة هون متل القبر. ولأنه ما في كتير مي، وبسبب الشوب بجيب شي بحطه تحت أقدامي وبكب مي على راسي، أحسن ماتروح على الأرض، بستعملن مرة ثانية”، تقول أمل ذات العلاقة المرتبكة مع الأرض، تقول إنّ المساحات الخضراء تنقصها، تتطلّع إلى كروم العنب كملجأ لها أيام الحرّ الشديد. في الحقيقة، كان لواقعة اعتقالها في سوريا وذكرياتها في السجن وما تعرضت له من عنف لفظي ومشاهداتها تعذيب نساء أخريات، ارتباطاً مباشراً بتمسكها بالأرض والإقامة في لبنان، مهما كانت الظروف سيئة، ومهما كانت احتياجاتها للمياه كبيرة مثلاً، أو لا يفصل بينها وبين أشعة الشمس سوى قطعة من قماش، وعن سيرها لمسافات كبيرة لجلب المياه محمولةً على أكتافها، إذ أنّه لا خيارات متاحة. أخبرتني في أحد المواضع:
دفعنا هذا للبحث عن نظم تكيّف بيئية بديلة للتعامل مع هذه التغيرات المناخيّة. واستطعنا مقابلة روزا الجهماني، وهي باحثة سورية بيئية ومؤسسة منظمة غران غرين ، تحمل شهادتي ماجستير في تخصص المخاطر البيئيّة وإدارتها ومهتمة بمجال آليات التأقلم مع تغير المناخ. عبّرت روزا عن سعادتها بالتطرق إلى موضوعة البيئة والتغيرات المناخية نظراً لأهميتها الراهنة، خاصة في ظل شح في هذه الانتاجات، والتفكير فيها من حيث الفئات المهمشة والنساء: “إنّ فكرة خلق أدوات للتكيف مع المناخ هو أمر ضروري لأن التغيرات المناخية حتمية، في ظل دورة صناعية متسارعة”.
تحدثت روزا عمّا يسمى “الظلم مناخي” في سياق حديثنا عن البيئة والفئات الهشة واللاجئات السوريات. تقول ” التغير المناخي هو عام، لكن تتغير آليات التكيّف من مجتمع إلى آخر، مثلاً في دول متقدمة لديها إمكانية الاعتماد على ألواح الطاقة الشمسية، أو وسائل نقل تعتمد على الكهرباء بدل الوقود، تختلف فيها تبعات هذه التغيرات عن تلك التي في دول نامية أو تعيش في صراعات، فتكون هذه الأدوات والإمكانيات بعيدة المنال. وهنا نتحدث عما يسمى ظلم مناخي، حيث الأثر عام وغير محدود بنطاق جغرافي معين، لكن الُمسبّب الرئيسي هي البلدان الصناعية الكبرى ونتائج استخدام الوقود الأحفوري وعدم ترشيد الموارد الموجودة بالإضافة إلى أسباب أخرى”.
أما بالنسبة لنظم تكيف بيئية بديلة شددت روزا في البداية على الزراعة كأهم آليات التكيّف لتحقيق الاكتفاء الذاتي، “وأقصد هنا الزراعة الذكية بمعنى اختيار بذار تتلاءم مع البيئة وظروفها، كالجفاف مثلاً، ثم جعل البذار تتأقلم مع التغيّرات، لأن النبات لديه أيضاً مقاومة ذاتية للعوامل الطبيعية وهناك تجارب حقيقة بدأت بالفعل باستخدام أيضاً وسائل ري منخفضة التكاليف“.
اقترحت روزا تشجيع النساء على البدء بمشاريع زراعيّة، لأن ذلك من شأنه أن يحقق قدراً من الاكتفاء الذاتي من جهة، وزيادة نسبة المساحات الخضراء من جهة ثانية، وبذلك تساهمن في تخفيض درجات الحرارة المحيطة وتخفيف نسبة غاز ثنائي أكسيد الكربون المسبب الرئيسي للاحتباس الحراري. كذلك ذكرت روزا أدوات أخرى يمكن اللجوء إليها لتحلية المياه، وصناعة فلاتر بأدوات بسيطة منخفضة التكاليف، “مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانيات النساء والمتاح لديهن. لذلك أؤكد على الزراعة”.
كذلك أكّد شاويش المخيم الذي قابلناه عن إمكانية الزراعة في المساحات القريبة من كل خيمة. من وجهة نظر روزا أن هذه الأدوات أو النظم لا يمكن تفعيلها دون توعية بمخاطر التغيرات البيئية، لذلك ركزت على أهمية التوعية إلى جانب مسارات خلق البدائل، بالإضافة إلى زيادة الدراسات والأبحاث في هذا المجال بغية رفع نسبة الوعي بالتغيرات المناخية وانعكاساتها المباشرة على حيواتنا كأفراد على المدى الطويل: “رأينا الحرائق والفيضانات وارتفاع منسوب البحر، في ذات الوقت هناك دراسات ومشاهدات تتحدث عن تأثير درجات الحرارة على رحم المرأة، وبسبب موجات الحرارة في شهر آب لوحِظ تأخّر في موعد الدورة الشهرية. هناك مشاهدات تتحدث أيضاً عن تأثير التغيرات المناخية على الصحة النفسية للأفراد وخاصة ضمن الفئات الأكثر هشاشة ومن ضمنها النساء، والذي لا يكون منعزلاً عن سياقهنّ الاجتماعي والاقتصادي”.
العواقب البيئية الحتمية تحدق بمنطقة الشرق الأوسط ولم يعد ممكناً تجاهل تبعاتها بعد الآن، وبسبب “الظلم المناخي” ستكون النتائج ذات أبعاد طبقية، إذ يعيش اليوم اللاجئون/ات السوريون/ات في لبنان أحلك أيام حياتهم/ن بشكلٍ تتضافر وتتقاطع فيه أشكال القمع والاضطهاد والبؤس، ما بين سياسات الإفقار والإذلال والعزل الاجتماعي وتجريدهم/ن من حقوقهم/ن الأساسية من تعليم وعمل وتنقل وضمانٍ صحيّ. وبحسب النساء التي قابلناهن فقد يحدث أن تتكاتف عوامل الاضطهاد، وتتقاطع بين ظلمٍ واقع على اللاجئين/ات السوريين/ات وأخرى تتعلق بتأثر النساء بطيف الظروف تلك، فيُرمى بالثقل كله على كاهلهنّ.